فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / ركن المقالات  /باقة  مقالات: فتح خيبر بين الماضي والحاضر/ فتح خيبر- أسباب النصر قبل المعركة

 

 

2- فتح خيبر- أسباب النصر قبل المعركة

 

في هذه المقالة النقاط التالية:

 

أسباب غَزْوِ خيبر

أسباب النصر في غزوة خيبر

       السبب الأول: تجديد بيعة الرضوان مع الله تعالى

       السبب الثاني: التحقق بأسباب نيل رضا الله تعالى

                        «خيبر» جائزة الرب لأهل بيعة الرضوان

       السبب الثالث: قبل المعركة.. الصدق مع الله والوفاء بعهده سبحانه وتعالى 

               القصة الأولى: قصة العبد الأسود

             القصة الثانية: قصة الأعرابي

 

 

 

 

أسباب غَزْوِ خيبر

كانت خيبر في هذه الأيام هي ذلك الجَيْب الذي بَقِي من اليهود بعد أن طَرَد النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة؛ لِدَسِّهم ومؤامراتهم على الإسلام، ومحاولاتِهم قتلَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتَجْيِيشِ الجيوش في غزوة الخندق، وتحريضِهم لبني قُريظةَ على نَقْض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووصولِ المؤمنين إلى أن بلغتِ الروحُ والقلوبُ الحناجرَ كما ذكر الله عنهم مما وصل بهم الحالُ([1]). لذلك كان المنتظَر من النبي صلى الله عليه وسلم - كما ينتظرون هم أنفسُهم - أنْ يُواجِهَهم لِيُصَفِّي هذه الجُيوب التي ما زالت تحاول أن تهدم الإسلام وتُجمِّع الأعداء وراءها لتهاجِم المدينة مرةً أخرى، ولتحاول أن تَقْتَلِع الإسلام مرةً أخرى من مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ونستكمل الكلام من وجهين..

(أعلى الصفحة)

 

الوجه الأول: أسباب النصر في غزوة خيبر

ونذكر في هذا الوجه ما يتعلق بأسباب النصر التي ما زالت حَلِيفةً لأهل الإيمان حتى انتصروا في خيبر؛ لنرى ذلك الحال الذي انتصر فيه المؤمنون على اليهود في تلك الأيام، ونرى حالنا الذي استعلى فيه هؤلاءُ المجرمون اليومَ على المسلمين؛ لنحاول أن نفكر في استعدال ذلك الميزان مرةً أخرى، وفي القيام بحقِّ الدين ونُصرة الإسلام قبل العذاب والاستبدال الذي حذَّرنا اللهُ تعالى منه لـمَّا قال: (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي: في الدنيا، وذهب بعضُ المفسرين إلى أنه في الدنيا والآخرة، والسياقُ لا يمنع ذلك كلَّه وإنما يؤكد على أن هذا العذاب واقعٌ في الدنيا، بدليل قوله تعالى (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا  وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) ؛ إذ الآخرة لا استبدالَ فيها.

ومَدْخلُنا الأول - كما ذكرنا - هو أسبابُ ذلك النصر في الحديبية التي أدتْ إلى ذلك النصر في فتح خيبر، ولِننظر ما نحن فيه مما وصلنا إليه، ولا حاجة لنا في الكلام على هذا الأخير؛ فإن الواقعُ يحكيه ونعيشه ولا حاجة لترديد أصداء الهزيمة به.. كلا، فلْنَحْكِ إذًا واقعَ النصر الذي وصلوا إليه ونترك الواقع الُمرَّ اليوم لأهل التفكُّر والتدبر لِيَرَوْا ما وصلنا إليه؛ حتى يحاولوا التخلص والتمَلُّص من هذا الواقع والانطلاقَ إلى الله لينصرهم في الدنيا والآخرة.

انظر إلى هذا الحال:

(أعلى الصفحة)

السبب الأول: تجديد بيعة الرضوان مع الله تعالى

بايع المؤمنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية، على ماذا بايعوه؟ بايعوه على الموت! بايعوه على ألَّا يَفِرُّوا.. كل ذلك يؤدي إلى هذا المعنى: أنهم بايعوه إنْ قُتل عثمان في مكة - حيث أرسله النبيُّ صلى الله عليه وسلم رسولًا له لِيفاوضَ أهلَ مكة على دخول النبي صلى الله عليه وسلم إليها سِلْمًا لا حربًا، وجاءت الإشاعةُ لتقول إن عثمان قد قُتل - بايعوه على ألا يفروا، وكانوا ألفًا وأربعمائة على تقدير كثير من المفسرين والمؤرخين. بايعوه صلى الله عليه وسلم «بيعةَ الرضوان» التي سمَّاها الربُّ بذلك، وذلك الذي ينبغي أن يكون مدخلَ المؤمنين اليوم للنصر، وهو: تجديد بيعة الرضوان مع الله تعالى؛ على ألَّا يَفِرُّوا.. على ألَّا يَنْهَزِموا.. على أن يموتوا في سبيله سبحانه وتعالى([2]).. على أن يبذُلوا جُهْدَهم ووقتهم لله جل وعلا.. على أن يأخذوا في أُهْبة الاستعداد للقاء الله تعالى.

وكيف بدأت هذه الأُهْبة؟

بدءوا في أَخْذِ هذه الأُهْبة التي أشرنا إليها في العشر الأواخر من رمضان وأيام البر والمغفرة والتوبة والرحمة، ثم المغفرة والذِّكر والخروج بهذه النفوس الطيبة الصالحة، وَصَلَ الحالُ بهذه النفوس الصالحة إذًا إلى أن يبايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ألَّا يفروا.

ذلكم مدخلنا اليوم: أن يبايع المرءُ ربَّه ألَّا يَفِرَّ، وأن يقف على ثغرٍ من ثغور الإسلام فلا يُؤْتَى الإسلامُ من قِبَله.. أن يقف على ثغرٍ يدافع عنه ويقوم فيه قَوْمَةَ القائِمِ لله تعالى.. أن يقوموا لله تعالى فيه قومةً تكون لهم عند الله جل وعلا قومةَ المؤمنين الصادقين.

إذًا هذه هي البداية: هل عاهدوا الله تعالى على ذلك وقرَّروا أن يُوفوا بما عاهدوا اللهَ عليه؟!

قال اللهُ جل وعلا مُبينًا جزاءَ الوفاء بذلك العهد: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 10].

ثم ذكر سبحانه وتعالى في نفس القصة صفات المُخَلَّفين من الأعراب - والتي نراها في المسلمين اليوم إلا من رحم ربي: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الفتح: 11].

ولن ينصلح حال هؤلاء المُتخاذِلين إلا عند تحقيق قوله سبحانه وتعالى: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)  [الفتح: 16].

ولسنا نحن الذين قال الله تعالى فيهم بعد ذلك: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 18]، والفتحُ القريب في هذه الآية هو فتح خيبر الذي نحن بصَدده، ثم بعد ذلك جاء فتح مكة، ومع هذا الفتح القريب: (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) ، أي: عندما تنتصرون على اليهود (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [الفتح: 19، 20]. وقد أشرنا من قبل إلى شرح هذه الآيات الكريمات([3]).

(أعلى الصفحة)

السبب الثاني: التحقق بأسباب نيل رضا الله تعالى

والسِّكّة الثانية التي ينبغي أن يَسلُكَها المؤمنون لِيتحققوا بنصر الله تعالى ولِيكونوا أهلًا لأنْ ينصرَهم على هؤلاء ويفتح عليهم خيبر قد بيَّنها اللهُ تعالى في قوله (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)، أي رَضِيَ اللهُ جل وعلا عنهم بصِحّة هذه البيعة المباركة، بيعة الرضوان التي ذكر اللهُ تعالى. وينبغي أن ينظر المؤمنون اليوم في أعمالهم وأحوالهم: هل وصل الحال بهم إلى مبايعة الرب جل وعلا وأن يقوموا له سبحانه وتعالى وأن ينصروا دينَه وأن يُؤَيِّدوا رسولَه صلى الله عليه وسلم وأن يبذلوا مالهم وأنفسَهم لله لا يَفِرُّون عن ذلك؟ أو أنه ما زالت الدنيا تأخذهم وما زالوا هم مُتخلِّفين عن نصرته صلى الله عليه وسلم، وشَغَلَتْهم أموالُهم وأهلوهم، وشغلتهم حظوظهم الفانية وسعيُهم الدائب الدءُوب في تحصيل الدنيا والتوسُّع فيها، أو في البكاء على فُقْدانِهم شيئًا منها بعد تحصيلها حفظًا لها واستعلاءً بها؛ هذه الأولى.

يعني: هل خرجوا من طلب الدنيا إلى طلب الله تعالى والدار الآخرة وعاهدوه على ألَّا يَفِرُّوا عن ذلك؟ أم ما زالوا مرتبطِين بها، مُخْلِدين إلى الأرض، ناسِين للقاء الله تعالى، لا يَهُمُّهم نصرُ دينه ولا هزيمتُه، لا يتألمون لذلك، ولا يستشعرون وجعًا ولا خِزْيًا، وصار الخزيُ والصَّغار والذلة علامةً عليهم ملازِمةً لهم لا تُحْزِنُهم ولا تُضايقهم كأنها من شعائرهم التي يقومون بها!

لـمَّا خرج هؤلاء رضي اله عنهم إذًا مبايِعِين لرسوله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وقَوَّاهم ورَفَع رايتهم وانطلقوا إلى خيبر كما ذكرنا.

والخلاصة: بايع المؤمنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيعةَ الرضوان، ولما بايعوه هذه البيعة بايعوه على ألَّا يفروا.. بايعوه على الموت في سبيل الله. فلما كان ذلك حالَهم إذا بالله تعالى يَعِدُهم الفتح المبين، وإذا بالله تعالى يعدهم الغنائم الكثيرة كما قال: 0(وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا) [الفتح: 20]، وإذا بالله تعالى يُعِدُّهم الإعدادَ الجيد لفتح مكة، وإذا بالله تعالى يفتح عليهم تلك الهُدنة مع صلح الحديبية لتكون سببًا في أن يدخل الناس في دين الله، وأن ترتفع رايةُ الإسلام، وأن يعمَّ الإسلامُ تلك النواحيَ.

لما بايعوه أطعَمَهم فتحَ خيبر، فكان فتحُ خيبر - كما ذكرنا - طُعمةً خالصةً لأهل الحديبية الذين بايعوا على الموت، وهذا ما ينبغي أن نتعلمه اليوم: أن أولئك اليهود كانوا تلك الطُّعمة التي وَهبها اللهُ تعالى للمبايِعين على الموت فقط، حتى مَن غاب منهم ولم يَحْضر خيبرَ قَسَم له النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمَهُ، وأعطاه حظه ونصيبه في الغنيمة.

فهذه الأولى التي ينبغي أن يحفظها المؤمنون: ما كان لهم أن ينتصروا حتى يُبايعوا ربَّهم على ذلك، فهَلَّا بايع المؤمنون اليوم ربهم على ذلك؟ أم ما زالوا راكنين إلى الدنيا مُخلِدين إليها، يُقَدِّمون الدنيا وحظوظَها وشهواتها العاجلة الفانية الزائلة على ذلك النصر لدينه، وعلى ذلك الثواب الذي يحصِّلون.

والإجابة حاضرة لكل عَيْن: أنهم فضَّلوا الدنيا، ولم يبايعوا أو يبذلوا جهدًا أو وقتًا أو مالًا خالصًا لله تعالى، أو أن يقطعوا واديًا، أو أن يبذلوا مَشقَّةً وتضحيةً لله تعالى. بل على العكس؛ يوفِّرون المشقةَ والتضحيةَ لتحصيل الدنيا الزائلة. عندما يجدون مالًا أو وقتًا يدخرونه ليتوسعوا به في الدنيا، لا ليُحَصِّلوا به الآخرةَ وليستكثروا به في أخذ حَظِّهم من مرضات الرب سبحانه وتعالى. مَن كان معه دنيا فهو يُوسِّعها ليُحصِّل بها دنيا أكبر! ومن لم ليست معه الدنيا فهو حزين ألَّا يحصلها ويسعى في تحصيلها! وتم نسيان القضية من أصلها: وهي سلوك طريق الآخرة والسير إلى الله تعالى كما كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(أعلى الصفحة)

الوجه الثاني: «خيبر» جائزة الرب لأهل بيعة الرضوان

ذهب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. والنقطة الثانية كما ترون من قصة بيعة الرضوان: أن خيبر هذه كانت طُعْمةً لأهل بيعة الرضوان فقط، يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى خيبر بأهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم وعاهَدُوه ألَّا يَفِروا وبايعوه على الموت صلى الله عليه وسلم؛ هم أولئك الذين فتحوا خيبر، وقد وعدهم اللهُ تعالى تلك المغانمَ الكثيرة، فلم يأخذ أحدٌ من مغانم خيبر التي قال عنها ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم: «مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ»([4])، أو كما في الرواية الأخرى للسيدة عائشة رضي الله عنها([5]): «وَلَـمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ»([6]). إذ كانوا ما زالوا في جَهْدٍ جَهِيد وشِدَّة وقلةٍ من الطعام والزاد والشراب - صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عن أصحابه الكرام. وكانوا ما زالوا يُقاسون شدةَ تَمسُّكِهم بالإيمان التي امتحنهم اللهُ تعالى به، والذي كان سببًا لأنْ يَفتح الله تعالى عليهم بعد صبرهم وثباتهم.

جاءوا خيبرَ وكانت خيبرُ خالصةً لهم؛ لهؤلاء أهل بيعة الرضوان، قَسَّمها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم، ولم يُعْطِ أحدًا غيرَهم إلا لأصحاب السفينة، فقد جاءوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وفيهم جعفرُ بن أبي طالب رضي الله عنه([7]) ابنُ عم النبي صلى الله عليه وسلم عند عودتهم من الهجرة الثانية إلى الحبشة فوافَوُا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد فُتِحَتْ خيبرُ، فقَسَم لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم - بعد إرضاء أهل بيعة الرضوان - من أَسْهُم خيبر، نظرًا لما كانوا عليه من الشدة ولِـمَا قاسَوْه من الهجرتين إلى الحبشة فِرارًا بدينهم إلى الله تعالى.

 

(أعلى الصفحة)

السبب الثالث: قبل المعركة.. الصدق مع الله والوفاء بعهده سبحانه وتعالى

وقبل أن ندخل نذكر هاتين القِصَّتينِ؛ لنبين بهما استكمالَ المعنى الذي بايع به أهلُ الرضوان النبيَّ صلى الله عليه وسلم، حتى نعلم المدخل الثاني الذي نسوق الكلام فيه في شرح هذا الفتح العظيم الذي كان تمهيدًا عظيمًا لفتح مكة كما ذكر المولى سبحانه وتعالى: (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 27].

 

      القصة الأولى: قصة العبد الأَسْوَد:

 جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عبدٌ أسود كان يرعى لبعض اليهود أغنامَهم، وكان قد سمع عن الإسلام فأسلَم، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أنا - كما ترى - أسودُ اللون، قبيحُ الوجه، مُنْتِن الرائحة، لا مال لي، أرأيتَ إنْ قاتلتُ اليومَ حتى قُتلتُ.. أأدخل الجنة؟». قال: «نَعَمْ».

هذا الأول: عبدٌ كما ترون من حاله وما شرح للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ولكني أرعى غنمًا لفلان»! قال: «اضْرِبْهَا بِالحَصْبَاءِ فِي وُجُوهِهَا فَسَتَعُودُ إِلَيْهِ». عادت إليه فعلم اليهوديُّ أن العبد قد أسلم.

قاتل الرجلُ حتى قُتِلَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم - عندما نظر إليه والتفتَ بوجهه عنه صلى الله عليه وسلم لـمَّا سألوه: «لماذا التفتَّ عنه؟» - قال: «إِنَّ مَعَهُ زَوْجَتَيْنِ مِنَ الحُورِ العِينِ الْآنَ».

«..أرأيتَ إنْ قُتِلتُ أَأَدخل الجنة». قال: «نَعَمْ». فقاتل حتى قُتل.

هذه الصورة.. صورة الوفاء بالعهد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ دَخَلَ الجَنَّةَ وَلَمْ يَسْجُدْ سَجْدَةً وَاحِدَةً للهِ قَطُّ»!.

 

(أعلى الصفحة)

   والقصة الثانية: قصة الأعرابيّ:

 جاء أعرابيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه على الإسلام، ثم لما غَنِم المسلمون شيئًا جاءوا له بقَسْمِه - يعني: جاءوا له بنصيبه من الغنيمة - وكان يرعى ظَهْرَهم، ولم يكن موجودًا في الصفوف الأمامية للقتال، فقال: «ما هذا؟». قالوا: «قَسْمٌ قَسَمَهُ لك النبيُّ صلى الله عليه وسلم» من الغنيمة، فأخذه فجاء به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال: «ما هذا؟» - ونحن نذكر هذه القصص لهؤلاء الخائفين على الدنيا المُتَمَسِّكِينَ بها المؤمنين أشدَّ الإيمان بالسعي فيها وتركِ الآخرة! - قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟»، قال: «قَسَمْتُهُ لَكَ» يعني: هذا نصيبك من الغنيمة. قال: «ما على هذا اتَّبَعْتُكَ! وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى هَاهُنَا» وأشار إلى حَلْقِهِ «فَأَمُوتَ فَأَدْخُلَ الجَنَّةَ» يعني: أنْ يُقاتِل فيأتيه هذا السهمُ في حَلْقِهِ، فيُقتلَ فيدخلَ الجنةَ. ثم جِيءَ به مقتولًا وقد قُتل في نفس المكان الذي أشار فيه إلى حَلْقِه! رُمِيَ بسَهم فجاء في حلقه فعلًا كما قال. وقبل أن يكون ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم - لِيُبَيِّن له ولنا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون من الصدق مع الله تعالى والإخلاص -: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ». يعني كأنه يقول: لا تقل لي: «أن أُلقى هنا وأُضرب هنا وأريد أن أدخل الجنة» بدون صدق وإخلاص وعمل، كهذا الكلام الذي نسمعه اليومَ ولا قيمة له، أي هو كلام فقط بدون عمل. قال: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ»، ليس هناك حَلٌّ آخر: تَصْدُق ربَّك. انتهى عَهْدُ الكلام وانتهى عهد الأمانيِّ الكاذبة وانتهى عهد المُزايدة التي يُظهرها المؤمنون اليوم في المناسبات المختلفة: «إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ». فذهب فقاتل فرُمي حيث أشار، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَهُوَ هُوَ؟!». قالوا: «نعم». قال: «صَدَقَ اللهَ - تَعَالَى - فَصَدَقَهُ»([8])، وكَفَّنه في جُبَّته الشريفة صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه ودعا له.

إذا كان ذلك عبدًا وذلك أعرابيًّا، وكان الوفاءُ بالعهد مع الله تعالى والبيعة له وعدمُ النَّكْثِ فيها سببًا لأنْ يقول له النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك - أي لهما ولأمثالهما - فما بالُك بالصِّدِّيقين والشهداء أصحابِ الدرجات العُلَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ على أي صِدْقٍ قابلوا الله تعالى؟! وعلى أي مَدْخَلٍ دخلوا لرضا الله جل وعلا عنهم؟! وبأي عمل نالوا رضوان الله؟

 

انظر إلى بداية هذه القصة إذًا:

البيعةُ على ألَّا يَفِروا..

صِدْقُ الله تعالى..

رَكْلُ الدنيا بأقدامهم...

والذهاب إلى تحصيل الآخرة ببذل أنفسهم إنْ لم يكن لهم مال، وبأموالهم وأنفسهم إنْ كان لهم الاثنان.

ونحن كما ترون على عكس هذه الحال!

 

---------------------------------------------------------------------------

 

فهرس باقة  مقالات: فتح خيبر بين الماضي والحاضر

المقالة السابقة: معالم النصر بين الهجرة وفتح خيبر

المقالة القادمة إن شاء الله تعالى: أحداث الفتح

 (أعلى الصفحة)


 

([1]) انظر سلسلتي «إلا تنصروه»: غزوة الأحزاب (رد المقصرين) وغزوة بني قريظة. والسلسلتان متوفرتان في صورة صوتية على مواقع الشبكة العنكبوتية للمعلومات (الإنترنت).

([2]) أخرج الإمام مسلم [1856] عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ. وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَلَّا نَفِرَّ». وأخرج الإمام البخاري [4167] عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: «قُلْتُ لِسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى المَوْتِ».

([3]) في سلسلة خطب «إلا تنصروه: غزوة الحديبية».

([4]) أخرجه البخاري في صحيحه [4243] عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا عليه.

([5]) انظر ترجمتها - رضي الله عنها- في شرح اسم الله «الرفيق» سبحانه وتعالى للمؤلف.

([6]) أخرجه البخاري في صحيحه [4242] عن عائشة رضي الله عنها موقوفًا عليها.

([7]) انظر ترجمته -رضي الله عنه- في شرح اسم الله القدوس –سبحانه وتعالى-  للمؤلف.

([8]) انظر قصة ذلك العبد الأسود والأعرابي رضي الله عنهما في «زاد المعاد» للإمام ابن القيم رحمه الله [3/ 287، 288]. وفي آخر قصة الأعرابي أنه كَفَّنَه صلى الله عليه وسلم في جُبَّتِه - أي جُبَّة النبي صلى الله عليه وسلم - ثم قدَّمه فصلى عليه، وكان من دعائه له: «اللَّهُمَّ هَذْاَ عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ، قُتِلَ شَهِيدًا، وَأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ» اهـ. وقصة الأعرابي رضي الله عنه أخرجها النسائي [1953] عن شداد بن الهاد. والرواية صَحَّحها الشيخ الألباني كما في «صحيح الترغيب» [ح: 1336]، وحديث العبد الأسود أخرجه الحاكم [ح: 2609]، وأخرجه عن طريق الحاكم البيهقيُّ في «السنن» [9/ 143] وقال: «لم أكتبه موصلًا إلا من حديث شُرَحْبِيل بن سعدٍ وقد تكلَّموا فيه، ورُوي عن محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه مرسلًا، ورُوي عن أبي العاص ابن الربيع قصة شبيهة بهذه إلا أنها بإسناد مرسل. انتهى - بتصرف يسير.

(أعلى الصفحة)

 

 

 

_________________________________________

روابط ذات صلة :

باقة  مقالات: فتح خيبر بين الماضي والحاضر

 

سلسلة خطب صوتية: إلا تنصروه: فتح خيبر

المجموعة (أو السلسة الموسعة): إلا تنصروه فقد نصره الله

 

سلسلة خطب صوتية رَفْع الصَّخْرَةِ عْنْ صَدْرِ الأُمَّة

 

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام :  هذه المقالة قرأها لكم  محُرِّرُ الموقع من  تفريغ لمحاضرات صوتية لفضيلة الشيخ محمد الدبيسي - حفظه الله وعافاه وبارك لنا في عِلمه وصحَّته-  من سلسلة خطب "إلا تنصروه فقد نصره الله تعالى – فتح خيبر"، وقد تصرّف المحررُ في هذه الخطب اجتهادًا منه , وبحسب ما أدى إليه فهمه واجتهاده، لتبسيطها وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر التي تحتويها هذه السلسلو الطيبة , لذا فإن أي خطأ يتحمله المحرر وحْدَه  ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به، ولا تنس أخي الكريم أن المقالة  أصلها تفريغ لخطب صوتية، لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليها, والله الموفق

آخر تحديث للصفحة:11ربيع الثاني 1431هـ، 27-3-2010

 

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله