أحداث الفتح
تمهيد
انظر: فُتِحَتْ خيبر!..
ونريد أن نُشير إلى قصة خيبر نفسها شيئًا ما: كيف فُتحت حُصونُهم؟ وكيف
كانت هذه الحصون في أشد المَنْعة عُدةً ورجالًا وسلاحًا وزادًا يمكن أن
يبقى معهم أشهرًا طويلة يَقِفُون به أمام النبي صلى الله عليه وسلم
وجيشِه، ولكنِ انظُرْ كيف ألقى اللهُ تعالى الرُّعب في قلوبهم؟ وكيف
نصر المؤمنين عليهم؟ وكيف ارتفعت راية الإسلام فيهم؟ وكيف دخل مَنْ دخل
في الإسلام؟ وكيف وَسَّع اللهُ تعالى على المؤمنين في زادهم وطعامهم
وأرضهم وديارهم؟ وكيف انتشرت دعوةُ الله تعالى بذلك كلِّه، حتى كان
فتحُ خيبر هو الفتحَ كما ذكر الله تعالى: (وَأَثَابَهُمْ
فَتْحًا قَرِيبًا)
[الفتح: 18].
جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم خيبرَ فصَبَّحَهم()؛
صلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الفجر وخرج أهلُ
خيبر إلى أرضهم وزِراعاتِهم بمَكاتِلِهم ومَساحِيهم كما يقول الحديث()،
فرَأَوُا النبيَّ والجيشَ فقالوا: «مُحَمَّدٌ وَالخَمِيسُ» أي: وصل
محمدٌ وجاء الخميس - يعني: الجيش()
- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَكْبَرُ.. اللهُ
أَكْبَرُ.. خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ
قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ»()،
عندما رآهم على هذا الحال، وهَرَب هؤلاء راجعين إلى حصونهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أكبر.. خَرِبتْ خيبرُ».. خَرِبت
ديارُ يهود.. خربت حصونهم وقِلاعهم.. قُتِل مُقاتِلَتُهم.. سُبِيت
ذراريهم ونساؤهم.. أُخِذت أرضُهم وأموالهم. لو شاء كما اتفقَ في
الصُّلح أن يخرجوا لم يخرجوا إلا بقميصٍ على جسم أحدهم ليس إلَّا.
تركوا للنبي الأرضَ والعِرْضَ.. تركوا له المال والنساء والأرض
والصفراء والحمراء.. كل ذلك من أموالهم قد تُرك للنبي صلى الله عليه
وسلم. وتصالحوا معه على أن يخرجوا ليس لأحدهم إلا قميصٌ يستر عورتَه،
ولكن أبقاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعملون في تلك الأرض حيث لم
يكن له صلى الله عليه وسلم مَنْ يقوم عليها، فقاموا عليها بالنصف إلى
أن أجلاهم عمر رضي الله عنه من جزيرة العرب().
كانت خيبر هذه - ونحن نقول هذه القصة ليرى المؤمنون ذلك الحال الذي كان
عليه الصحابة رضي الله عنهم ويقارنوه بهذا الوضع الذي نحن فيه الآن -
كانت خيبر تنقسم إلى قسمين: القسم الأول - ويسمى بـ«الشّقِّ والنَّطاة»
- فيه خمسةُ حصونٍ شديدة محصَّنة تحصينًا تامًّا ما كانوا يحلُم اليهود
أن يدخلها المسلمون ولا غيرُهم، وكان فيها سُراتُهم - يعني أبطالهم
وأشرافهم - وكان فيها مَدَدُهم وعَيْشُهم وماؤهم. والقسم الثاني -
ويسمى بـ«الكُتَيْبة» -: ثلاثة حصون؛ هذه الحصون مَن هرب من الحصون
الأولى ذهب إليها.
(انظر
للأهمية:
ملحق الخرائط الذي يبين جغرافية خيبر)
* * *
(أعلى الصفحة)
فتح الحصن الأول - حصن «نَاعِم»
وكان فتح الحصن الأول ويسمى: حصن «نَاعِم»، حاصره النبيُّ صلى الله
عليه وسلم.
ونذكر قصةَ الحصار لنعلم أمرين: الأمر الأول وهو كيف تحمَّل المؤمنون
المشقةَ وقلةَ الزاد والمال والطعام ليقاتلوا في سبيل الله وليرفعوا
رايته. والأمر الثاني: بَذْلُهم أنفسَهم والصدق في تصمِيمهم على أن
يفتحوا هذه الحصون بأمر الله تعالى مهما لاقَوْا من عَنَتٍ؛ جرَّاء ما
فعل اليهود من مؤامرات في المدينة المنورة، وحتى عندما أُجْلِيَ بعضُهم
منها - أي يهود بني النضير؛ أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن
المدينة بعد غزوة بدر بعد تآمرهم على قتله صلى الله عليه وسلم - وذهبوا
إلى خيبر كانوا أولَ مَن ألَّب الأحزابَ على النبي صلى الله عليه وسلم
ليستأصلوه مِن المدينة في غزوة الخندق، ولم يزلْ كيدُهم وتدبيرهم لم
ينقطع، وكانوا يُعِدُّون العُدَّةَ لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم،
وكانوا يستعينون بالعرب من غَطَفانَ على هذا الحال، وما زال هذا
الجَيْبُ من جُيوب اليهود يقوم بذلك الإفساد في الأرض ومحاربة النبي
صلى الله عليه وسلم واغتيال المؤمنين إلى هذا الوقت الذي قرَّر فيه
النبيُّ صلى الله عليه وسلم تَصْفِيةَ هذا الفساد والإفساد.
ونذكر هذه القصص إذًا لِيَعلمَ المؤمنون مدى نصر الله لهم عند صِدقهم
وعند بذلهم من ناحية، وعند تَحمُّلِهم الشدةَ والمشاقَّ وقلةَ الطعام
والزاد والمال من ناحية أخرى؛ حتى يوازِن المؤمنون اليوم بين ما هم فيه
من رَغْد العيش من الأكل والشرب وغيرهما، وبين ما كانوا عليه رضي الله
عنهم من شَظْف العيش والمَخْمَصة()
الشديدة حتى كانوا يَشْكُون للنبي صلى الله عليه وسلم قلةَ ذلك،
وهَمُّوا من تلقاء أنفسهم - لـمَّا لم يجدوا شيئًا يأكلوه - أن يأكلوا
الحُمُرَ الإنسيةَ، وفعلًا ذبحوا الحمر الإنسية هذه ووضعوها في القُدور
حتى يُسَوُّوها ليأكلوها، ولما سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن
ذلك أَمَرَهم بكَفْءِ()
هذه القدور وألا يأكلوها()،
وحرَّمها عليهم صلوات الله وسلامه عليه مع ما هم فيه من المشقة، ولم
يَقُم قائِلُهم ليقول: «نحن لا نجد شيئًا نأكله، واللهُ قد أباح
الميتة، ونحن قد خرجنا في سبيل الله، ماذا نفعل؟!..» لم يقولوا ذلك.
ونحن على العكس: سواءٌ الجالسون أو المواجِهون لليهود، في أكلهم وشربهم
ونومهم ودنياهم واستمتاعهم بنسائهم ووُقوفهم عند هذه الملذات لا
يتحركون، وكذلك لا يغضبون ولا يتغيَّرون بوجود منكَرٍ رأَوْه قد يكون
سببًا في تعطيل نصر الله وسببًا في رفع رحمته أو نزول غضبه. وأسبابُ
نزول الغضب - كما ترون ولا يتألم لها المؤمنون - أكثرُ من أسباب تنزُّل
الرحمة التي ينتظرها هؤلاء الذين ينتظرون السراب؛ لأنهم ينتظرون بغير
عمل يُؤَدُّونه، وبغير جهد يَبْذُلونه، وبغير مشقة يتحملونها في سبيل
الله. بأيِّ شيءٍ ينصرهم ربُّهم إذًا؟! بأكلهم وشربهم ونومهم؟!
بِبُعْدهم وجفائهم لدينهم ولربهم ولكتابهم؟! بتقديمهم الدنيا والأهلَ
والولدَ على أن يقوموا لله بشيءٍ من صلاةٍ أو صوم أو زكاة؟! كان
الأجدرُ بأهل الإيمان هذه الأيام: أن يصوموا فلا يُفطروا حتى ينصرَ
اللهُ تعالى المؤمنين.. أن يبذلوا أموالهم كافةً حتى يُنَزِّلَ اللهُ
جلَّ وعلا شيئًا من رحمته فترفع البلاءَ النازل.. أن يقوموا لله مثنى
وفرادى ثم يتفكروا في تلك الأحوال كيف يُدافعونها؛ حتى يرى ربُّهم منهم
أنهم صاروا أهلًا لرحمته، فإذا تنزلت عليهم رحمةُ الله وأحاطتهم
عنايتُه، فلا يقف لهم حينئذٍ شيءٌ وأوشك نصرُه أن يكون قريبًا.
انظر الحالَ الثاني من أحوالهم التي كانت سببًا في النصر وهو حال
التفاني..
قاتَل المؤمنون حول هذا الحصن الأول - وهو حصن «ناعِم» كما سماه
أصحابُه - قتالًا مريرًا شديدًا ولم يُفتح عليهم لأيامٍ. إذا بالنبي
صلى الله عليه وسلم يقول: «لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ غَدًا
رَجُلًا، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولَهُ،
وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»().
وهذه المسألة التي ينبغي أن يتفكر فيها المؤمنون اليوم: لقد كان الفتحُ
على يد مَن يُحبه اللهُ ورسوله! تُرى بقية المؤمنين لا يحبهم اللهُ
ورسوله ولا يحبون اللهَ ورسوله؟.. كلَّا، ولكنَّ النبيَّ صلى الله عليه
وسلم كأنه يقول: غدًا سأُعْطِي أحدَ الممتازين الرايةَ فيُفتح عليه..
أحدَ هؤلاء المحبِّين لربهم.. المحبين للشهادة.. المُتطلِّعين لنصر
الله تعالى..
بات المؤمنون ليلةً طيبة ينتظرون مَنْ يُعْطَى الرايةَ غدًا، وكلُّهم
يَوَدُّ أن يأخذها.. كُلُّهم يَوَدُّ أن يكون ذلك الرجل الذي يحب اللهَ
ورسوله واللهُ ورسوله يُحِبَّانِه.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى
طَالِبٍ؟». فَقِيلَ: «هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ يَشْتَكِي
عَيْنَيْهِ». قَالَ: «فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ». فَأُتِيَ بِهِ،
فَبَصَقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في عَيْنَيْهِ، وَدَعَا
لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ! فَأَعْطَاهُ
الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِىٌّ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ
حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟». فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ
حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ،
وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ،
فَوَاللهِ لِأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ
مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»().
نزل بطلُ أبطال اليهود - «مَرْحَب» هذا - وقال: «مَن يبارز؟». فخرج له
عامرُ بن الأكوع رضي الله عنه ليقاتله، فاتقاه بدِرْعه، فعَضّ الدرعُ
في سيف مَرْحَب، فأراد عَامِرٌ أن يَضْرِبهُ مِنْ أَسْفَلَ - وكان في
سيفه رضي الله عنه قِصَر- فَرَجَعَ سَيْفُ عَامِرٍ عَلَى نَفْسِهِ
فقُتل فيها رضي الله عنه().
خرج له عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه.. وهذا مَرْحَبُ يقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ |
شَاكِي السِّلَاحِ، بَطَلٌ مُجَرَّبُ |
إِذَا الحُـرُوبُ أَقْبَـلَتْ.. تَلَهَّبُ
وردَّ عليه عليٌّ رضي الله عنه بمثله من الرَّجز وهو يقول:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
|
كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ |
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
يعني: أُكِيل لهم كَيْلًا واسعًا. فضرب رأسَه فقتله، وكان الفتحُ.
هذه رواية البخاري()..
فُتح هذا الحصن!
والوقوف اليوم في هذه المسألة: تُرى هؤلاء الذين يحبون اللهَ ورسولَه
ويحبُّهم اللهُ ورسولُه لا يبذلون أرواحهم؟! أم أن محبة الله ورسوله
بأن يُحب اللهَ ورسولَه أفضلَ مما سواهما، يعني: أفضل من ماله ونفسه
وولده ووالده والناس أجمعين().
فعندما يصل المؤمنون إلى أن تكون محبةُ الله ورسوله عندهم هي
المُقدَّمةَ على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ووالديهم وزوجاتهم والناسِ
أجمعين، عندها ينتظرون نصرَ الله. والمؤمنون اليوم
-
إلا من رحم ربي -
على العكس من ذلك؛ إذا قيل لهم مثلًا: «هلَّا جلستم يومًا تَدْعُون
الله تعالى في بيته؟» إذا بالقائل يقول: «..الظروف لا تسمح، وكذا
وكذا..»، ولا يُحِسُّ بخطورة ما نحن فيه، ولا صعوبةِ ما وصلنا إليه.
لقد وقفوا على يوم واحد يقضونه لله تعالى فلم يَرْضُوا.. وقفوا على
قليلٍ من المال فبَخِلُوا.. وقفوا على شيء من الجهد فلم يَبذُلوا..
فأين محبةُ الله التي يُرجى بها النصرُ ويُنتظر بها الفتحُ؟!!
ونرجع إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسيرتهم العطرة: دار قتالٌ
شديد في هذا الحصن - حصن «ناعم» هذا - بعد مقتل مَرْحَب. نزل أخوه
ليبارز: «من يبارز؟». خرج له الزبير رضي الله عنه().
قالت صفيةُ رضي الله عنها()
عمةُ النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقْتُل ابْنِي!». قال: «لَا،
ابْنُكِ يَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ». فضربه الزبيرُ رضي الله عنه
فأطار رأسَه، فقتله().
وانهارَتْ معنوياتُهم بعد مَقْتَل سُراتِهم()،
وهربوا من الحصن إلى الحصن التالي وهو حصن «الصَّعْب».
* * *
(أعلى الصفحة)
فَتْحُ الحِصن الثاني
-
حصن «الصَّعْب بن معاذ»
وكانت المشقةُ قد وصلت بالمسلمين ساعتَها إلى أن جاء مُقاتِلو قبيلة
أَسْلَم للنبي صلى الله عليه وسلم يَشْكُون له ألَّا طعامَ لهم ولا
زادَ، وأنهم يقاتلون بغير شيء، يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن
يُزَوِّدَهم شيئًا يأكلونه يَتَقَوَّوْن به على المجاهدة. فدعا النبيُّ
صلى الله عليه وسلم دعاءً خاصًّا عند الحصن الثاني
-
حصن «الصَّعْب بن مُعاذ»
-
دعا اللهَ أنه ليس عنده شيءٌ يُعطيهم، وليس عنده زادٌ يُزَوِّدهم، فدعا
لهم بالنصر وأنْ يُوَسِّع اللهُ عليهم في الزاد. ففُتِح هذا الحصنُ،
وكان مُقاتِلُو أَسْلَم أكثرَ المسلمين قتالًا! ما إنْ غَرَبتِ الشمسُ
حتى فُتح الحصن، ولم يجدوا حِصْنًا فيه طعامٌ ووَدَكٌ()
أكثرَ من حصن الصعب، ففتح الله تعالى عليهم بفتح الحصن وبالزاد والطعام
والودك، فنصرهم وأكلوا وشربوا، وانتظروا أن يواصلوا فتحَ بقية الحصون،
واليهودُ يَسْتَقْتِلون في الدفاع عنها لأنهم قد علموا أنَّ نهايتهم
عند هذا الحد. وما كانوا يقاتلون ولا يلتحمون، وإنما كانوا يَتحصَّنون
كما ذكر الله تعالى عنهم: (لَا
يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ
وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ
)
[الحشر: 14].
* * *
(أعلى الصفحة)
فتح الحصن الثالث
-
حصن «قَلْعة الزُّبَيْر»
فَرَّ الباقي إلى الحصن الثالث وهو «قلعة الزبير» التي كانت من أحصَن
حُصونِهم ومن أشدِّها مناعةً، وكانت في قُلَّة جبلٍ()
يعني: على جبل مرتفع، إذا أراد المسلمون أن يَصِلوا إليهم رَشَقُوهم
بالنِّبال وألقَوْا عليهم الحجارةَ حتى لا يصل إليهم أحدٌ. وجاء رجلٌ
من يهود يبدو أنه أَسْلَمَ وقال: «يا أبا القاسم، إنهم مُتَحَصِّنون
منكَ لأن لهم عُيُونًا وشرابًا تحت الأرض، فإذا جاء الليلُ ذهبوا
فشربوا وتزوَّدوا ثم رجعوا ليقاتلوكَ. إنْ قَطَعْتَ عليهم عُيُونَهم
وشرابَهم أَصْحَرُوا()
لكَ فقاتَلْتَهم». ودلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على هذا المكان،
فقَطَع عنهم ماءَهم وشرابهم، فخرجوا ليقاتِلوا، فقاتَلَهم المسلمون
قتالًا شديدًا وفتحوا الحصنَ ودخلوا إليه()
وفرَّ بقيتُهم إلى الحصن الرابع.
* * *
(أعلى الصفحة)
فوائد وعِبر:
رأينا كيف فتح الله تعالى على المؤمنين الحصون الثلاثة الأولى، ورأينا
هذين الأمرين اللذين ينبغي للمؤمنين اليوم أن يتحصنوا بهما؛ الأمر
الأول: هو دعاء الله تعالى، وقد رأينا كيف دعا النبيُّ صلى الله عليه
وسلم بالنصر والفتح والرزق والبركة من الله تعالى. وهو ما ينبغي أن
يكون عليه المؤمنون حالَ شدتهم وبأسهم، وحالَ كونهم في مشقة وعَنَتٍ في
مواجهة أعدائهم. والأمر الثاني: وهو حال صبرهم وتحملهم ومسارعتهم إلى
القتال على هذا النحو الذي بيَّنته الروايات، وكيف أنَّ مَنْ كان أشدهم
جوعًا وتعبًا ومشقةً إذَا بهم أكثرُهم قتالًا وبذلًا ومسارعةً إلى
الشهادة وإلى مقاتلة أعداء الله تعالى!.. وهذه الحال هي عكس حال
المؤمنين اليوم -
إلا من رحم ربّي:
إذا أُصيبوا بقلة الطعام والزاد كان هذا أولَ الأسباب التي تمنعهم أن
يبذلوا شيئًا لله تعالى ولو ركعتين في صلاة، يقول أحدهم: «أنا مُتعب..
أنا لم آكل.. أنا في مشقة.. أنا في كذا كذا..» لينام، وليُهيئ لنفسه
الأسبابَ التي يتكاسل ويتوانى بها عن نصرة دينه، والتي يَسْتَنيم بها
إلى ما هو فيه.. كلا، لما كان المؤمنون الأُوَل على هذا الحال إذا بهم
أولُ المسارعين إلى القتال، وأولُ مَن قاتل ذلك القتالَ المرير حتى فتح
الله عليهم. والربُّ سبحانه وتعالى عندما يرى عباده وقد بذلوا
أنفسهم وتحملوا له - جل وعلا - تلك التضحياتِ وهذه المشقات، إذا به
ينصرهم ويؤيدهم ويقويهم ويهزم أعداءَهم، أما إن تكاسلوا عن ربهم سبحانه
وتعالى وتعللوا وتحججوا ليبتعدوا عن نصرة دينهم وليُقصِّروا في القيام
بأعباء إسلامهم وإيمانهم، فإن الله تعالى يتركهم لأعدائهم؛ خاصَّةً إنْ
كان تكالُبهم على الدنيا كتكالب أعدائهم، فما الفارقُ إذًا بينهم
وبينهم؟!!
هذه الأولى التي ينبغي أن تكون من زاد المؤمنين اليوم نصرةً للدين
وحفظًا لما تبقى من أعمال الإيمان التي ينبغي أن يسارع فيها المؤمنون
لتحقيق نصر الله تعالى.
ونرجع إلى الأمر الأول الذي أشرنا إليه سريعًا: وهو دعاء النبي صلى
الله عليه وسلم. فإنه ينبغي أن يكون دعاءُ المؤمنين اليوم لله تعالى
بالنصرِ والفتحِ مصحوبًا بالبذل والتضحية، لا أنْ يناموا ويرتكنوا إلى
الدنيا ثم يقولوا: «اللهم انصر دينك.. الله انصر الإسلام والمسلمين..»!
نَعَمْ. الدعاءُ مطلوبٌ على كل حال، ولكن ينبغي أن يكون المرءُ قد بذل
جهده ورفع كلَّ عمل صالح يمكن أن يُستجاب له به؛ هذا هو المطلوب
لتَنْزِل الرحمة، لكن أن يدعو المرءُ ربَّه لا مع جهد ولا بذل.. لا مع
عمل صالح يرفع هذا الدعاء إلى الله تعالى، ولا مع صدق مع النفس والربِّ
جلَّ وعلا فأنَّى يصدقهم ربُّهم سبحانه وتعالى ويفتح عليهم؟! لقد وقف
المؤمنون اليوم عند دعاءٍ باللسان لا وزنَ له، نعم فيه بعض الحزن على
ما آل إليه حالُ المؤمنين وما يمكن أن يؤول إليه، ولكنْ ينتهي هذا
الحزن بالانغماس في الدنيا والأكل والشرب وبقية الأحوال التي هي في
غاية البُعد عن تحمل المسئولية، فضلًا عن تحمل المشقة. انظر إلى
المؤمنين اليوم: بعد أن يدعوا ربَّهم سبحانه وتعالى يذهبون ليأكلوا
ويشربوا ويضحكوا، ويَتَنَدَّرُوا بالنَّوادر والفواكه التي هم فيها،
وليحكُوا قصصًا وتاريخًا لا علاقة لها بأسباب ما هم فيه من هزيمة ولا
بما يجب عليهم أن يقدموه لنصر الله تعالى!!
كان الأَوْلى بالمؤمنين اليوم أن يدعوا اللهَ تعالى بالنصر، ثم يحاولوا
أن يتحققوا بالأسباب التي ينصرهم اللهُ تعالى بها، لا أن يخرجوا إلى
الغفلة مرةً أخرى وإلى البُعْد والتقصير وإلى الأكل والشرب وإلى معافسة
النساء()
وإلى النظر إلى الصُّور المحرمة وإلى الانهماك في الدنيا.. وغيرها. لا
لم يكن المؤمنون الأُوَل كذلك، بل وقفوا أنفسَهم وأولادهم لله تعالى؛
وقفوا ذلك كلَّه على نصر دينه سبحانه وتعالى، وأحبُّوا اللهَ ورسوله
وأحبهم اللهُ ورسوله، فلم يكن من الله جل وعلا الكريم إلا أنْ نصرهم
ورفع رايتهم وهزم أعداءهم شرّ هزيمة.
* * *
فتح الحصن الرابع
-
حصن «أُبَـيّ»
انتقل اليهود إلى الحصن الرابع وهو حصن «أُبَيّ»، وخرج منهم كذلك مَنْ
يبارز. يحاول اليهود في كل مرةٍ أن يخرج أحد منهم ليبارز، حتى إذا ما
قُتل أحد المبارزين من المسلمين، لعل ذلك أن يكون رفعًا لمعنويات بقية
اليهود وتقويةً لقلوبهم وتعضيدًا لأسباب بقائهم وصمودهم.
خرج مبارزان من أبطالهما فقتلهما المسلمون؛ قتل أحدَهما أبو دجانة رضي
الله عنه()
واقتحم الحصنَ ودار قتال شديد حتى فُتح الحصن.
* * *
(أعلى الصفحة)
فتح الحصن الخامس
-
حصن «النِّـزَار»
انتقل بعد ذلك يهود إلى آخر حصونهم وهو حصن «النِّزَار»، وكان أشد هذه
الحصون مناعةً وقوةً، وتجمّع فيه كل اليهود، وتجمعت فيه السبايا - يعني
الذرية والنساء - وتجمع فيه السلاح والطعام والزاد، وما كان عندهم شك
أبدًا في أن يقتحم المسلمون هذا الحصن مهما كان.
وأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنصب المنجنيق، وتخلخلت حوائط الحصن،
وتمكن المسلمون من اختراقه، ودار القتال داخل الحصن على أشد ما يكون؛
لأنه لم يبق لليهود شيء. لقد انتهت الحصون كلُّها التي في هذه المنطقة
التي تسمى «النَّطاة والشِّق» في هذا الجزء، ولم يبق لهم أن يَفِرُّوا،
بل يجب أن يقاتلوا. قاتلوا ولكنهم فَرُّوا وتركوا نساءهم وذراريهم!!
وانظر اليوم إلى تلك الحال التي نحن فيها: عُكس الوضعُ وصار النُّزوح
والهجرة بالأولاد والأطفال والجرحى للمسلمين فقط في العالم كله! مع
أنهم كما رأينا لم يقفوا لهؤلاء الجَوعى من أهل الإيمان.. هؤلاء
المتقين الأبرار الذين قاتلوا لربهم محبةً ولرسولهم محبةً، وقاتلوا عن
دينهم وعن أهلهم وعن إسلامهم؛ رفعًا لرايته وإعلاءً لكلمته. لم يبالوا
بدنيا ذهبتْ ولم يكن أمامهم إلا النصر أو الشهادة. وعُكس الحالُ: فكان
اليهود ومن وراءهم كما نرى اليوم، وصِرنا إلى هذا الحال وذلك الواقع
المرّ الذي نعاني منه. ومع أننا نعاني منه جميعًا، فإننا جميعًا
-
إلا من رحم ربي -
لم نعمل شيئًا لرفع المعاناة، ولم نبذل شيئًا ليكون سببًا من أسباب
النصر، ولم نعمل شيئًا ندرأ به عن إخواننا أو يُفتح عليهم به أو نجاهد
في سبيل الله به.
أُغلقت هذه المنطقة، وفرَّ اليهود، وسُبيت النساءُ والذَّراري فيها،
وانتقل من استطاع أن يجري فِرارًا تاركًا نساءه وأطفاله إلى الجزء
الثاني من خيبر الذي يسمى «الكُتَيْبة»()،
وفيه هذه الحصون الشديدة: «القَمُوص»، و«السُّلالِم»، و«البَطِيح».
* * *
(أعلى الصفحة)
فتح الحصن السادس
-
حصن «القَمُوص»
وكان الحصن الأول - حصن «القَمُوص» - من أشدِّها، قاتل فيه المسلمون
ليفتحوه، وإذا بابن أبي الحُقَيْق -
من رؤساء يهود -
يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْزِلُ فأُكَلِّمكَ؟» قال: «نَعَمْ».
فنزل من الحصن وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: «نُصالحكم على الأرض وأن
تأخذوا البيضاء والصفراء([25])
والأموال، وأن تأخذوا كلَّ شيء، وأن يَجْلُوَ اليهودُ عنها ليس على جسد
أحدهم إلا قميص يواري سوأته؟». قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«لَكُمُ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ؟» قال: «نعم». قال: «عَلَى
أَلَّا تَكْتُمُونِي شَيْئًا، فَإِنْ كَتُمْتُمُونِي شَيْئًا فَلَا
عَهْدَ لَكُمْ؟». قال: «نعم».
وكان حُيَيُّ بن أَخْطب من بني النَّضير رأسَ الفئة الضالة من اليهود
في مقاتَلة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تَجْيِيش الجيوش له، وفي
نَسْجِ المؤامرات، وهو الذي حثَّ قريظةَ على أن ينقضوا عهدهم مع النبي
صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، وقُتل ساعتَها في غزوة الخندق،
وكان له مالٌ كثيرٌ ذهبوا به إلى خيبر، وسأل النبيُّ صلى الله عليه
وسلم ابنَ أبي الحقيق عن مال حُيَيٍّ، فقال: «أَذْهَبَتْه النفقاتُ
والحروبُ». قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «المَالُ أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ»! وغَيَّبوا المال.. غَيَّبوا كَنْز
حُيَيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء كِنانةُ بن الربيع - ابنُ
عَمِّهم - وقال: «كنتُ أرى فلانًا منهم يطوف حول هذه الخَرِبة([26])
كلَّ يوم في الصباح». فنبشوها فوجدوا المَسْك - يعني الكنز - الذي فيه
مال حُيَيّ([27]).
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم كان قد أخذ عليهم العهد: إنْ هم غَيَّبوا
شيئًا عنه أو كتموه أَيَقْتُلُهم؟ قالوا: «نعم». قال: «أَرَأَيْتَ
إِنْ وَجَدْنَا الْكَنْزَ أَنَقْتُلُكَ؟». قال: «نعم». فوجدوه،
فقتلهم صلى الله عليه وسلم لِنَكْثِ عهدهم معه صلوات الله وسلامه عليه.
واصطفى صلى الله عليه وسلم صفيةَ من السَّبْيِ، وكانت تحت كِنانة
عروسًا جديدة، ولـمَّا طَهَرت بَنَى بها النبيُّ وضمَّها لنسائه صلى
الله عليه وسلم ورضي الله عنها([28])،
وجعل عِتْقَها صَدَاقَها([29])
صلوات الله وسلامه عليه، وانتهت قصة يهود في خيبر، وصالحوا المسلمين
على أن يبقوا في الأرض؛ يصلحونها ويزرعونها، ولهم نصفُ ما يخرج منها
وللمسلمين النصفُ الباقي على أن يُخْرِجَهم المسلمون متى شاءوا([30]).
* * *
(أعلى الصفحة)
يهود «فَدَك» و«وادِي القُرَى» و«تَيْماء»
بقيت حصونٌ من حصون يهود في الجزيرة وعلى حدودها، بقيت «فَدَك» و«وادِي
القُرَى» و«تَيْماء»، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أرسل إلى
فَدَك يدعوهم إلى الإسلام فأبطأوا عليه، فلما رأَوْا فتح خيبر جاءوا
يصالحون النبي صلى الله عليه وسلم على مِثل ما صالحه عليه أهلُ خيبر،
فصالحهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم كذلك بنفس المصالحة وعَقْدِها،
وذهب إلى وادي القُرَى صلى الله عليه وسلم فتجمَّع اليهود ومَن تَبِعهم
من العرب، وما إن وصل المسلمون على حالهم.. لم يأخذوا أُهْبَتَهم
واستعدادهم، رَشَقوهم بالنَّبْل والحجارة. فتعبَّأ المسلمون واستعدوا
لِقتالهم، فخرج المبارزون منهم ليبارزا أهلَ الإيمان، خرج الأول
فقُتل.. خرج الثاني فقُتل.. إلى أحدَ عَشَرَ رجلًا. وكلُّ مرة يرجع
النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليصلي صلاةَ الخوف ويعود إليهم، فيدعوهم
إلى الإسلام، فيُصِرُّوا على الكُفْر.. في كل مرة يفعلون ذلك! حتى إذا
أصبحوا تهيأ المسلمون لقِتالهم، فنزلوا على الصُّلْح عَنوةً، فعاملهم
كما عامل أهل خيبر وأهلَ فدك، ثم وصل إلى تيماء وقد أَبْدَوُا
الصُّلْحَ قبل أن يصل إليهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وانتهت
شوكة يهود من جزيرة العرب وحدود الشام، ثم أجلى عمرُ رضي الله عنه
يهودَ خيبر ويهود فدك من الجزيرة؛ امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه
وسلم في مرض موته: «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ
الْعَرَبِ»()،
فأخرجوهم جميعًا. ولم يُخْرج عمرُ رضي الله عنه يهودَ تيماء ولا يهود
وادي القرى لأنهما في حدود الشام وليسا في حدود الجزيرة، وصارت فدك
بالذات خالصةً للنبي صلى الله عليه وسلم()
كما ذكر الله جل وعلا في تقسيم هذا الفيء له صلوات الله وسلامه عليه.
انتهتْ
قصتُهم التي ينبغي أن تنتهي اليومَ، ولكن انتهت بمؤمنين قد بايعوا
اللهَ تعالى على ألَّا يفروا..
انتهت
بمؤمنين صدقوا اللهَ فصَدَقَهُم..
انتهت
بمؤمنين تحملوا المشقةَ في سبيل رَفْع ونُصرة دينِهم..
انتهت
بأولئك الذين تركوا دُنياهم وأولادهم وأموالهم وخرجوا مجاهدين في سبيل
الله إمَّا النصر وإما الشهادة..
انتهت
بأولئك الذين يُحبون اللهَ ورسوله ويحبهم اللهُ ورسوله..
انتهت
بأولئك المؤمنين المتقين الذين كانوا فرسانَ النهار رهبانَ الليل..
انتهت
بأولئك الذين إنْ نزلت بهم مَخْمَصمةٌ لم يتركوا بابَ الله تعالى حتى
يُفَرِّجها..
انتهت
بأولئك الذين إذا أصابتهم الشدةُ قاتلوا ولم يرتكنوا إلى الدنيا..
انتهت
بأولئك المؤمنين المتقين الذين ذَكر اللهُ تعالى فيهم في نفس السورة
التي أشار فيها إلى الفتح - فتح خيبر: (مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)
[الفتح:
29].لم
يكنِ اللهُ جل وعلا لِيُنَزِّل رحمتَه على أولئك الذين ليسوا رحماءَ
فيما بينهم.. على هؤلاء المتباغضين المتقاطعين المتدابرين، لم يكن
لِيُنزل عليهم الرحمة: (رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)
[الفتح: 29].
(أعلى الصفحة)
تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتَوادّهم فيما بينهم
ونختم بهذه القصة التي وردت في نهاية فتح خيبر:
كان الحجاجُ بن عِلَاط السُّلَمِي رضي الله عنه()
قد أسلم وأخفى عن امرأته أمِّ شيبة من بني عبد الدار بن قُصَيّ بمكةَ،
كان هو سُلَمِيًّا وتزوج من مكة هذه المرأة، وكان مُكْثِرًا من المال،
وكان له مالٌ كثير في مكة، ولو علم المشركون بهذا المال الذي تركه عند
امرأته لم تكن لِتُعْطِيَه منه شيئًا. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
«أذهب إلى مكةَ وأقول قولًا لأحصِّل مالي قبل أن تسبق الأخبارُ إلى مكة
بفتح خيبر؟». قال: «نَعَمْ». فذهب الحجاج - ونذكر هذه القصة
لنرى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وموقف المؤمنين من نصر المسلمين
وإخوانهم، ولنرى هذا الحال في تعاطفهم وتوادهم.
ذهب الحجاجُ إلى امرأته في مكة وقال لها: «أَخْرجي ما عندك من المال
كله؛ لأنني أريد أن أشتري أشياء كثيرة من غنائم محمد وأصحابه، فقد
انتصر عليه اليهودُ في خيبر وأسَرُوا محمدًا وسيأتوا ليبيعوه في مكة
جرَّاء ما قتل منهم»!! وانتشر الخبرُ في مكة وسمع العبَّاسُ رضي الله
عنه()
ذلك الخبر، فجاء ليقوم رضي الله عنه فانخَذَل ظهرُه ولم يستطع القيام.
وجمع الحجاجُ ماله فبعث إليه العباسُ رضي الله عنه غلامَهُ وقال له:
«اذهبْ فانظر ماذا يقول هذا». واجتمع الناسُ على باب العباس رضي الله
عنه بين شامِت مُغْرِي - كما يقولون - وبين حَزِين باكٍ، وبين مَن
أصابه الهولُ كأنَّ الصاعقة قد نزلت عليه لِـمَا سمع من أخبار النبي
صلى الله عليه وسلم، وصاروا في غَمٍّ وحزن شديد لم يَرْوا مثلَه قط.
فجاء الغلامُ إلى الحجاج فقال للغلام: «قل للعباس: الأمرُ على ما يُحب،
وفَرِّغْ أحدَ بُيوتكَ لِأَلْقاكَ في الظُّهر».
وفِعْلًا ذهب الغلامُ إلى العباس فقال له: «يقول لك الحجاجُ: الأمرُ
على ما تحب». فكبَّر وقام من مجلسه كأن لم يكن أصابه شيء قط بعد أن كان
قد انْخَذَلَ ظهرُه ولم يستطع أن يقوم! ثم خلا به العباسُ في بعض بيوته
فقال: «ما الذي حدث؟». قال الحجاج: «فتح اللهُ تعالى خيبرَ، وجرتْ
سِهامُ الله تعالى فيها، وأُسر أعداءُ الله، واصطفى النبيُّ صلى الله
عليه وسلم صفيةَ()».
فخرج العباسُ مُتهلِّلًا، ومرَّ على أَنْدِية قُريشٍ الكفرةِ وقالوا:
«والله إنَّ هذا لهو التجلُّد يا أبا الفضل» يعني: أن تتجلد لهذه
المصيبة هذا الجَلَد().
فقال رضي الله عنه ساكتًا وقد قال له الحجاج من قبلُ: «اكْتُم عني
ثلاثًا حتى إذا خرجتُ فقل ما شئتَ».
ذهب العباسُ رضي الله عنه فقالوا له: «لا يُحْزِنُك اللهُ أبدًا ولا
يكون إلا ما تحب». فقال: «نعم، الأمرُ على ما أُحب، ولا يحزنني اللهُ
أبدًا: لقد نصر اللهُ نبيَّه، وهزم يهودَ، وجرتْ سهامُ المسلمين فيهم،
واصطفى بنتَ مَلِكهم - صفية رضي الله عنها - وقسَّم المسلمون غناءمَهم
وامتلكوا أَرضهم».
عاد الحزانى إلى فُروجهم()
فرحين كأن لم يكن قد أصابهم سوءٌ قط لـمَّا سمعوا تلك الأخبار السارة
عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وعادت الكآبة
والأسفُ والحزن على وجوه هؤلاء المشركين()
لِتُبين مصداق قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)
[الفتح:
29]
إلى آخر ما ينبغي أن يكون سببًا عظيمًا من أسباب النصر: أن يكون
المسلمون اليومَ على حالٍ تَفْشُو فيه المرحمةُ بين أهل الإيمان، ويفشو
فيه التجاوز والتسامح والمغفرة لكل أحد؛ حتى تنزل رحمةُ الله.. حتى
يكونوا أهلًا لمغفرة الله تعالى لهم. أمَّا إذا بقي المسلمون على ما هم
فيه، فلْيَنْتَظِروا الاستبدالَ أو التعذيب، ولن يضروا الله شيئًا،
والله على كل شيء قدير: (إِلَّا
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
[التوبة: 40].
ماذا
يُضِير المؤمنين اليوم أن يصوموا حتى يُفَرِّجَ اللهُ تعالى عنهم.. أن
يقوموا حتى يَنْصرَهم الله جل وعلا.. أن يُصلوا حتى يرتفع البلاءُ.. أن
يتسامحوا حتى تنزل الرحمة؟!!
ماذا
يُضيرهم اليومَ من جهدٍ وبذل يَبذلونه لله تعالى ليَرى ربُّهم منهم
أنهم قد عادوا إليه وأنهم يريدون وجهَه وينصرون دينه ويؤيدون نبيه صلى
الله عليه وسلم؟!!
ماذا
عليهم كذلك لو بذلوا وقتًا وجهدًا لله تعالى في نُصرة دينهم؟!!
اليومَ كلٌّ مَدْعُوٌّ لأنْ يُصلح ما بينه وبين ربه، وما بينه وبين
إخوانه؛ ليَتأهل الجميعُ لنصر الله، فإنَّ صفَّ المؤمنين الأول اليوم
هو أنتم، ليس قَبْلكم صفٌّ أمام يهود، أنتم الصفُّ الذي يُدفع به، ولا
يدفع بغير الإيمان والعمل الصالح.. بغير الدعاء والذكر.. بغير التضرع
والبكاء.. بغير الصلاة والقيام.. بغير الصيام والهجر لما حرَّم اللهُ
تعالى.. بغير تعمير بيوت الله تعالى وإقامتها.. بغير أن يقوموا لله جل
وعلا بذلًا لوقتٍ وجهدٍ ومالٍ وصدقةٍ، وأن يقوموا لله تعالى كذلك في
لَـمِّ شَمْلهم وفي إصلاح ذات بينهم حتى ينصرهم الله تعالى.
---------------------------------------------------------------------------
فهرس
باقة مقالات:
فتح خيبر بين الماضي والحاضر
المقالة
السابقة:
أسباب النصر
المقالة
القادمة إن شاء الله تعالى:كيف
نَصَر اللهُ تعالى عبدَه ورسولَه صلى الله عليه وسلم
(أعلى الصفحة)
()
أخرجه البخاري في صحيحه [4779]، والإمام مسلم [1807] بنحوه
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. قال الإمام النووي في شرح
مسلم: [«شَاكِ السِّلَاح» أَيْ: تَامّ السِّلَاح،
يُقَال: «رَجُل شَاكِي السِّلَاح»، وَ«شَاكِ السِّلَاح»،
وَ«شَاكٍ فِي السِّلَاح» مِنْ الشَّوْكَة، وَهِيَ
الْقُوَّة، وَالشَّوْكَة أَيْضًا: السِّلَاح، وَمِنْهُ
قَوْله تَعَالَى: (وَتَوَدُّونَ
أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)
[الأنفال: 7].قَوْله:
«بَطَل مُجَرَّب» هُوَ بِفَتْحِ الرَّاء، أَيْ:
مُجَرَّبٌ بِالشَّجَاعَةِ وَقَهْرِ الْفُرْسَان،
وَالْبَطَل: الشُّجَاع،.. و«حَيْدَرَة»: اِسْمٌ
لِلْأَسَدِ، وَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه قَدْ سُمِّيَ
أَسَدًا فِي أَوَّل وِلَادَته، وَكَانَ «مَرْحَب»
قَدْ رَأَى فِي المنام أَنَّ أَسَدًا يَقْتُلهُ،
فَذَكَّرَهُ عَلِيّ رضي الله عنه ذَلِكَ لِيُخِيفَهُ
وَيُضْعِف نَفْسه. قَالُوا: وَكَانَتْ أُمّ عَلِيّ
سَمَّتْهُ أَوَّلَ وِلَادَته أَسَدًا بِاسْمِ جَدّه
لِأُمِّهِ أَسَد بْن هِشَام بْن عَبْد مَنَافٍ، وَكَانَ
أَبُو طَالِب غَائِبًا، فَلَمَّا قَدِمَ سَمَّاهُ
عَلِيًّا. وَسُمِّيَ الْأَسَد حَيْدَرَة لِغِلَظِهِ،
وَ«الْحَادِر»: الْغَلِيظ الْقَوِيّ، وَمُرَادُه: أَنَا
الْأَسَد عَلَى جُرْأَته وَإِقْدَامه وَقُوَّته. قَوْله:
«أُوفِيهِمْ بِالصَّاعِ كَيْل السَّنْدَرَهْ»
مَعْنَاهُ : أَقْتُل الْأَعْدَاء قَتْلًا وَاسِعًا
ذَرِيعًا، وَ«السَّنْدَرَة»: مِكْيَال وَاسِع، وَقِيلَ:
هِيَ الْعَجَلَة، أَيْ: أَقْتُلهُمْ عَاجِلًا، وَقِيلَ:
مَأْخُوذٌ مِنْ السَّنْدَرَة، وَهِيَ شَجَرَة الصَّنَوْبَر
يُعْمَل مِنْهَا النَّبْل وَالْقِسِيّ] اهـ.
()
قال ابن منظور رحمه الله في «لسان العرب»: «قُلَّة» كل شيء
رأْسه، و«القُلَّة»: أَعلى الجبل، و«قُلَّة» كل شيء
أَعلاه.... وخصّ بعضُهم به أَعلى الرأْس والسنام والجبل.
اهـ - بتصرف يسير -
مادة: [ق ل ل].
()
أي: مُخالَطَتُهنَّ، ومُلاعَبَتُهنَّ، ومعالجةُ أمورِهنَّ،
والاشتغالُ بمَصالِحهنَّ.
أَبُو دُجَانَةَ
الأَنْصَارِيُّ، سِمَاكُ بنُ خَرَشَةَ - وقيل: سِمَاكُ بن
أَوْس بن خَرَشة - الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ السَّاعِديُّ
البَّدْريُّ رضي الله عنه، من رَهْطِ سعد بن عبادة رضي
الله عنه. شَهِد بدرًا مسلمًا، وكان من الأبطال الشجعان
المعروفين، ودافَعَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ
أُحُد، وشهد اليَمامة، وله مشاركةٌ فى قتل مُسَيْلِمة
الكذاب، وثبت فى صحيح مسلم [2470] عَنْ أَنَسٍ رضي الله
عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ
سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي
هَذَا؟ فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ؛ كُلُّ إِنْسَانٍ
مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا أَنَا. قَالَ: فَمَنْ
يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ.
فَقَالَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ: أَنَا
آخُذُهُ بِحَقِّهِ. قَالَ: فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ
المُشْرِكِينَ». وقُتل أبو دجانة رضي الله عنه يومَ
اليمامة شهيدًا سنة اثنتي عشرةَ في خلافة أبي بكر الصديق
رضي الله عنه. انظر
- بتصرف: «تهذيب الأسماء» للنووي، و«سير أعلام النبلاء»
للذهبي [1/244-246] وغيرهما.
()
«الصفراء»: الذهب، و«البيضاء»: الفضة.
()
متفق عليه - من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم: البخاري [3053]، ومسلم [1637].