فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / ركن المقالات  / أجمل النسمات من مقالات الأشهر المعلومات/ حال المؤمنين بعد الخروج من رمضان: أولًا: الشكر

 

 

منقول (

 

من أحوال المؤمنين بعد رمضان: الشُّكْر

 

في هذه المقالة النقاط التالية:

عواقب شكر نعم الله تعالى

العاقبة الأولى والثانية: ثباتُ النعمة وزيادتها

العاقبة الثالثة: قبول الاعمال الصالحة

كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً صلى الله عليه وسلم

كيد الشيطان مع المؤمنين بعد رمضان

آثار الشكر

     الأثر الأول:  قيام الليل والوفاء بعهد الله تعالى

    الأثر الثاني للشكر: الإقبال على تلاوة القرآن

    الأثر الثالث للشكر:  إدمان ذكر الله تعالى

 

عواقب شكر نعم الله تعالى

بعد  رمضان وتوفيق اللهِ العبدَ المؤمنَ للطاعة والعمل الصالح من أعمال المغفرة والعتق من النار، خرج المرء محبًّا لله تعالى؛ أن وفقه إلى ذلك وأحسن إليه سبحانه وتعالى، وأفاء عليه برحمته وفضله وكرمه وغفرانه، في الوقت الذي يرى فيه الفسقة والفجرة والكفرة بعيدين عن الله تعالى لا يعرفون طريقه جل وعلا، لذلك كان شكر الله تعالى هو المطلوب الأول لمن أراد الاستقامة على طريقه، لأن شكرَ النعم له عواقبُ حسنةٌ كثيرة؛ منها:

إلى رأس المقالة

العاقبة الأولى والثانية: ثباتُ النعمة وزيادتها

  فبشكر النعمة تثبت هذه النعمة التي أخذتَها من الله تعالى، وبشكر النعمة تزداد النعم، كما قال الله تعالى: (لَئِنْ  شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)،  فمَن وفَّقه الله للسير في طريقه فهذه نعمة عظيمة ويكون شكرها سبب تثبيت ما كان من هذه النعمة وأيضًا في زيادتها بالمسابقة في السير في هذا الطريق، وعلى العكس فإن كفر النعم يمحقها، ويذهب بها، وكفر النعم معناه ترك شكرها ؛ لأنه قال :

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7)

 

 والمرء بعد رمضان يحتاج إلى قضية  الشكر تلك ؛ لأن الله تعالى قد بيَّن خطورتها في قوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)

(سبأ : 13)،   وكأن الشيطان علم ذلك، وهي قصة الشيطان التي بينها قوله تعالى : (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 16-17) .

فقضية الشكر هي القضية المهمة التي يحاول الشيطان أن يفسدها على المؤمنين، حتى لا يكون  أهلُ الإيمان شاكرين لله تبارك وتعالى على الحقيقة؛ وأنه لا بد أن يقف لهم هذه الوقفة ويقطعهم هذه القطيعة كما قال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16)

يعني : ما إن ينتهى رمضانُ وقد بدأ المؤمنون فيه السيرَ إلى الله تعالى حتى يقف لهم الشيطانُ بعرض الطريق حتى لا يمرَّ أحدٌ!

ولكنْ هناك من يمرُّ...... فمَن هم؟       الشاكرون فقطهم هم الذين يمرُّون.  

أي هؤلاء الذين ثبتوا على الشكر، وفي نفس الوقت بذلوا لله البذل الذي يمكن أن يكون سببًا لثبات النعمة، وأن يكون سببًا لزيادة النعمة من الله تعالى ؛ الذين قال الله تعالى فيهم: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ : 13) هم فقط الذين يمرّون من كيد وحواجز الشيطان التي يضعها على طريق المؤمنين المُوصّل إلى الله تعالى ويصلون إليه جلّ وعلا.

إلى رأس المقالة

 

العاقبة الثالثة: قبول الاعمال الصالحة

وهو أن استمرارَ وبقاءَ أعمال الإيمان والطاعة بعد رمضان دليلٌ على أنه قد قُبلتْ في رمضان ؛ لأن المرء بعد رمضان إذا وُفِّق للطاعة  دلَّ ذلك أنه في رعاية الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى حفظه، وأن الله تعالى وفقه، وقَبل عبادته في رمضان.

 أمّا إذا لم تُقبل هذه العبادات في رمضان فإن دليل الرفض و الحرمان أنه بعد رمضان يُحرم هذه العبادات مرة أخرى.

إلى رأس المقالة

 

 كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً صلى الله عليه وسلم

وكانت أعمال النبي دِيمة كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في الحديث المتفق عليه «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً»،   أي كانت أعماله صلى الله عليه وسلم في شعبان وفي رمضان وفي غيرهما من الشهور أعمالاً لا تنقطع،  فإذا جاءت مواسم المغفرة ازداد في الاجتهاد صلى الله عليه وسلم.

 

وإن كـان النبــي صلى الله عليه وسلم قد قال: «فَإِنَّ لِكُلِّ عَابِدٍ شِرةٌ وَلِكُلِّ شِرةٍ فَتْرَةٌ؛  فَإِمَّا إِلَى سُنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ،  فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّةٍ فَقَدِ اهْتَدَى،  وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَك»وفي رواية: «إن لكل عمل شرة»[1]

 يعني: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يُبيّن للمؤمنين أن أعمال رمضان لن تتأتى لهم بعد رمضان، وأن أعمالَ رمضان أعمالٌ عالية ولا يمكن أن يستديم عليها إلا من رحم الله أو من اجتبى الله تبارك تعالى، وهؤلاء لا شك أنهم سيَنْزِلون عن تلك الأعمال بعد رمضان وسيفترون عنها، ولكن لا ينبغي أبدًا أن ينزلوا عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان: في دوام الذكر، والقيام، وفي أخذهم بحظ وافر من القرآن، و الصدقة، وفي صلتهم  بالله تعالى... إلخ.

 

إلى رأس المقالة

كيد الشيطان مع المؤمنين بعد رمضان

ولكنْ: يأتي الشيطانُ ليمنع هؤلاء المتقين الذين قد تحققوا بشيء من أعمال التقوى والمغفرة من مواصلة السير، وأيضا يأتي لهؤلاء الذين خابوا في تحصيل تلك المغفرة فيُقْعِدُهم ويُمنيِّهم أنهم إن شاء الله سيعوِّضون ما فات.. فيجلسون هكذا حتى يأتي رمضان القادم ولم يحصلوا شيئًا!

 

لذلك كانت هذه هي معركةَ المؤمن مع الشيطان في هذه الأيام؛ معركةَ الشكر.

 وهذه المعركة تستوجبُ من العبد المؤمن الشاكر لربه المحافظةُ على هذا العهد الذي عاهد الله عليه أن يستمر على صيامه، وذكره وقرآنه،و أن يبقى على ما كان عليه من أخلاق حسنة في البذل... في الإنفاق...  في الجهد...  في الإحساس بقرب الرحيل إلى الآخرة، والزهد في الدنيا، والإقبال على ربه متجردًا له... محبًّا له...  متعلقًا به...  متضرعًا له أن يحفظه و يوفقه سبحانه وتعالى، وألا يَطُولَ عليه الفتورُ هذه الأيام؛ لأنه إن طال عليه الفتور في  هذه الأيام زاد في بُعْدِه  عن الله تعالى ونزولِه عن الطاعة وفترته وانفكاك وانحلالِ هذه العزيمة التي كان عليها، ولا يستطيع أن يرجع بعد ذلك إلى ما كان عليه في رمضان، وهيهات لمثل ذلك  أن يرجع ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خاب وخسر من أتى عليه رمضان فلم يغفر له ) (2)

 

آثار الشكر

فإذا كان قد خرج المرءُ  بالمغفرة من رمضان فإن هذه المغفرة كما أشرنا تستوجبُ أوَّل ما تستوجب هذا الشكرُ، فإذا كان قد حَصَّل المرء  العتقَ من النار، وحَصَّل رحمة الله تعالى ومغفرته  له فلا بد أن يظهر عليه آثار هذا الشكر، وهي الآثار التي يسعى الشيطان لإفسادها حتى يخرج بالمؤمنين عن طريق الله تعالى. فما هي هذه الآثار ؟

إلى رأس المقالة

 

          الأثر الأول:  قيام الليل والوفاء بعهد الله تعالى

وأول الآثار التي يسعى الشيطان لإفسادها على المؤمنين ليخرجهم من طريق الشكر..هو قيام الليل. فإذا ما تمكن الشيطان من أن يُفسد عليك هذا القيام، وأن يفسد عليك وِرْدَك من القرآن فقد انتهت مشكلته معك و استراح الشيطان منك! وعلم أنك لن تستطيع أن تقاومه بعد ذلك، وأبعدك عن الطاعات والعبادات، وتخفَّفتَ منها وأجَّلتها وسَوَّفت بعضها ..وتركت الآخر..حتى يصل منحنى عبادتك  في النهاية إلى الصفر مرة أخرى ويعود المرء سيرته الأولى، فيأتي عليه الليل فيقول : سأنام قليلا وأستيقظ قبل الفجر، فإذا به لا يقوم ولا يصلي ؛ لذلك كان الوفاء بالعهد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول : «أوصاني حبيبي بثلاث لا أدعهنّ ما عشت : أن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم كل شهر ثلاثة أيام، وأن أصلي الضحى»  (3).

فالحَذِرُ، الحريص على آخرته، المترقبُ لها، المحبُّ لربه المقبل عليه الذي قد خرج ليكون عمله في الطاعة عملا متصلا دائما الذي لا يمنعه عن محبوبه شيء ، تجده متعلقًا به مقبلاً عليه محبًّا له روحه تزهق عندما يبتعد عن الإقبال عليه والتعلق به، ويعينه على ذلك حسن التوكل عليه سبحانه وأسوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وحاله المشرف فلم يكن يشكر ويقرأ ويصلي ويقوم ويتصدق في رمضان، ثم بعد ذلك كأن رب رمضان ليس موجودًا في شوال وفي بقية الشهور، لا ..كاع عمله ديمة صلى الله عليه وسلم.  لهذا كان العملُ الدائم هو الأحبَّ إلى الله تعالى.

وليكن المرء على حذر من هذه  النقطة لأنها مرتبطة بالوفاء بعهده الجديد مع الله تعالى:  فالمصيبة الأولى التي يصاب بها في قلبه وعمله والتي تكون سببًا لنكص العهد... ترك القيام. لماذا عاد بعد رمضان فلم يوفق إلى القيام ؟ ترى ماذا كان يفعل ؟

لماذا كان في رمضان يقوم ويتهجد وطوال الليل يصلي، ثم بعد ذلك لا يصلي؟ ما الذي فعله حتى حرمه الله تبارك وتعالى ذلك؟ فقيام الليل ولذة مناجاة الربّ ليست من أعمال الدنيا ولا من سعادتها، بل هي  من الجنة،  فالدنيا لها سعادتها التي يسعى إليها الساعون في هذه الحياة الدنيا، أما قيام الليل ولذة المناجاة والإقبال على الله تبارك وتعالى والتملق والدعاء والمحبة كل ذلك ليس من الدنيا... ولا من سعادتها ولا من نعيمها ولا من سرورها، وإنما من سرور الجنة ومن سعادة الآخرة.

وهذه لا يهبها الله تعالى إلا لأناسٍ أحبهم فأقامهم له جل وعلا!

وانظر إلى حال المؤمنين اليوم إلا من رحم ربي:  لماذا أقامهم في رمضان وبعد رمضان انتهى ذلك و حرمهم منه؟ هل كان قيامهم في رمضان مغشوشا ؟ هل كان قيامهم في رمضان على غير المحبة والإقبال على الله تبارك وتعالى ؟ هل كان قيامهم في رمضان لمراءاة  الناس فقط، ثم بعد ذلك لما خلَوْا بربهم لم يوجد السبب الداعي لذلك من محبة لربهم وتعلقهم به وإقبالهم عليه سبحانه وتعالى، أو من عدم استشعارهم قرب الآخرة ودنو الرحيل إلى الله تبارك وتعالى، أو لعدم ثقتهم فيما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الفضائل التي قالها صلى الله عليه وسلم في قيام الليل والإقبال عليه؟!

التدبر لهذه المعاني أول حل لهذه المصائب؛ لأن حل هذه المصائب سيحل كثيرًا من مشاكل المرء، وهو كيفية أن يوفي المرء بعهده بعد رمضان؛

لابد أن يوفي  المرءُ بهذا الوعد مع الله تبارك وتعالى...وليكوننَّ لسانُ حاله كما كان يقول صحابة النبي صلى الله عليه وسلم: َيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ) .. لن أنامَ هذه الليلة...

مبدأُ العبد المؤمن  بعد رمضان ألا ينام حتى يوتر، وأن يقوم شيئًا مما كان يقوم به لله تبارك وتعالى، يستشعر به العودة إلى الله تعالى، ويستشعر به حلاوة الإيمان التي كان فيها ويستشعر بها أنه صار بها من أصحاب قيام الليل لله تبارك تعالى، الذين لهم ليلهم مع ربهم في التضرع والمناجاة والدعاء والذكر والإقبال على الله تبارك وتعالى كما ذكرهم سبحانه وتعالى:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16)  أو كما قال (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذاريات: 17)

 

إذا صلحتْ هذه النقطة بالذات بعد رمضان سينصلح معها بقية الأحوال ؛ لأن من كان ليله صالحاً كان نهاره صالحاً، ومن كان نهاره صالحًا ظهر على ليله،  فلما كان ليل المرء  سيئًا دل على أنه كان في نهار سيىء كما يقول العلماء.

إذن لا يمنعك مانع أن تصلي العشاء فتقوم لتحفظ ليلتك وتقومها، ستأتيك كما ذكرنا  وساوس الشيطان ويأتيك عن اليمين والشمال، ومن أمامك ومن خلفك -كما ذكر في الآية - ليقطعك  عن العبادة،  وستأتيك العوائق ، وسيقول لك الشيطان بعد العشاء: عندك مشوار غذد في الصباح الباكر، وعندك زيارة، وعندك كذا وكذا حتى يضيع عليك الليل ، وسيقول لك أيضا : أنت مُتْعَبٌ الآن؛ أَخِّرْ هذا القيام لما قبل الفجر، واستيقظْ وحاول أن تصلي في السحر،  فيُضيِّع  عليك هذه الليلة، ثم تضيع الليلة التي بعدها والتي  بعدها ...وهكذا.

إلى رأس المقالة

 

الأثر الثاني للشكر: الإقبال على تلاوة القرآن

ولأن ترك القرآن يأتي في المرحلة المصاحبة لقيام الليل، لذلك فهي الأثر التالي من آثار الشكر التي يسعى الشيطان لإفسادها على أهل الإيمان.

وهما المصيبتان اللتان يحس بهما المرء بعد رمضان، بأن ينشغل عن القرآن ويضعف ورده فيه، وتكاد علاقته أن تنقطع يوما بعد يوم إن قرأ شيئا اليوم فلعله لا يستطيع غدًا وهكذا ؛ لذلك كانت القضية الثانية والمرتبطة بإصلاح القلب والعمل هي قضية القرآن.

هذا الورد من القرآن الكريم سواء تقوم به في ليلك أو تقرأه في نهارك لا بد أن يتحقق ..لا تُفَرِّطْ فيه أبدًا...

لا يمر اليوم على المرء حتى يقضي ورده من قراءة القرآن، ومن التفكر في آياته، وكيفية الوفاء بالعهد مع الله تبارك وتعالى؛ فلا بد وأن يقوم المرء بورده ..وما فرط فيه في أَمْسه لابد أن يقضيه ويقرأه في يومه.

فإذا لم يستطع المرء أن يري ربه ما يصنع في قيام الليل أن يريه ما يصنع في قرآنه وكلامه سبحانه وتعالى وهو كذلك سبيل من أعظم السبل التي يصلح بها القلب و العقل و الذهن و البدن، ويصلح بها الوقت وتصلح بها سائر الأحوال التي يوفيها، فإذا لم يتمكن من ذلك قال : ليرين الله ما أصنع في القرآن، ويربط نفسه ليله ونهاره به في هذه الأيام.

 فإذا  كان المرءُ  فارغا فيها -أي في هذه الأيام التي تلي رمضان - فليقبل على كتاب الله تعالى ويختمه كل ثلاث ليال...

فإذا ختمه كل ثلاث ليال استعاد القلب نشاطه، وحلّت البركة  فيه مرة أخرى، واستعاد القلب قوته على مقاومة أمراض الشهوة ووساوس الشيطان والنفس،  وعاد القلبٌ قويًا ثابتًا بهذا الكلام المبارك وأخذ منه قدرًا من الهُدى والشفاء كما ذكر الله تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)  (فصلت 044)  فبهذه الهداية التي يحصلها المرء يستطيع  أن يقاوم بها شيطانه ونومه وكسله، وأن يوفي بها عهده  مع الله تعالى.

 

فالحل إذن أن يحاول المرء  الوفاء  لربه بأن يربط نفسه هذه الأيام ليختم القرآن

ولْيبدأْ من ساعته هذه التي هو فيها.. لا يؤخر ذلك وليتذكر معركته مع الشيطان،

فإن قال له الشيطان : "انتظرْ آخر اليوم ، دعْك إلى الليل ، إن شاء الله ستقرأ وردك من القرآن  بعد العشاء"  فعليه إلا يسمع كلام الشيطان وأن يسمع كلام الله تعالى و يسارع إلى تنفيذه كما أمر  الله تعالى في قوله:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران 133)،وفي قوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ) (الحديد 021) وفي قوله تعالى:  (فِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)  (المطففين 026).

فدلت كل هذه الآيات أنه ما أن يسمع  العبد الؤمن المحب لربه شيئا من كلام الله تعالى إلا ويسارع إلى تنفيذه لئلا تقطعه القواطع والعوائق والشواغل، وما يأتيه من وساوس الشيطان وأذاه الذي يقطع عنه هذا الطريق إلى الله تعالى، فدواؤك الثاني الذي يكون سبيلا لسعادتك واستعادة قوتك وقواك النفسية واستعادة هذه الهداية وهذا الهدى، وهذا الشفاء : هو القرآن الكريم.

قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29) فمهما أخذت منه أخذت بركة وهدى وشفاء ، فإن ربطت نفسك في هذه الأيام تريد بذلك أن تعاود ربك، وتريد بذلك معاودة الحنين في قلبك إلى الطاعة والمحبة، وتريد بذلك تقوية النفس، وأخذ البركة والنشاط، وأخذ الهدى والنور وأخذ الشفاء لهذه الأمراض التي أصابت المرء هذه الأيام.

إلى رأس المقالة

 

الأثر الثالث للشكر:  إدمان ذكر الله تعالى

الأثر التالي الذي يبيّن شكرَ نعمة السير في طريق الله هو إدمان ذكر الله تعالى؛  فكان الأمر التالي الذي تواجه به هذه الحالة من  حالات الغفلة التي تنتاب المرءَ بعد رمضان  أن يرى الربُّ عزّ وجلّ أنك من الذاكرين له كثيرا والذاكرات.

وحالة إدمان ذِكر الله تعالى  من الحالات التي نهتم بها لأمرين:

الأمر الأول:  إن هذا الذكر  يحفظ القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن نبي الله يحيى عليه السلام: « وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ؛  فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِى أَثَرِهِ سِرَاعاً،  حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ،  كَذَلِكَ الْعَبْدُ لاَ يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ »  (4)  يعني: كذلك المرء يُحصِّن نفسه من الشيطان بذكر الله تعالى.

 

حالكُ إذن بعد رمضان هو كثرة  الذكر وإدمانه،  حتى لو كان شعارا للسان وحلية له فقط، فهذا أخفّ من أن يكون المرء غافلاً قلبًا ولسانًا عن الله تعالى، وربما من كثرة ذكر اللسان يتواطأ  القلب مع اللسان ويستشعر القلبُ واللسانُ معًا  الذكرَ وحلاوته، وحلاوة الإقبال على الله تبارك وتعالى فترتفع درجة المؤمن، ويكون ذلك سبب تحصينه الذي يطلبه من الله تعالى كعدو خرج في أثره سراعا حتى إذا أتى إلى حصن حصين حصن نفسه منه.

ومِن أكثر ما ينبغي أن يذكر المرء به ربه : لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي تحميه من كيد الشيطان، وكذلك تحافظ عليه من وساوسه وتعينه على ما يريد ويأمل من أعمال الخير والقربات والطاعات، فبعد الأذكار التي يأتيها المرء من التسبيح والتهليل والتكبير لله تبارك وتعالى، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن يُكثر من قول  "لا حول ولا قوة إلا بالله" فتجمع عليه قلبه.

 

الأمر الثاني : الوقاية من التشتت وانفراط القلب وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من أصبح وهمه الآخرة جمع الله تعالى عليه شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة »  (5)

فقضية المرء التي ينبغي أن يهتم بها هي: كيف يكون همه همًّا واحدًا؛  هذا الهمّ الواحد الذي يربط عليه قلبه ويقبل بقلبه على الله تبارك وتعالى، ويجمع عليه شمله ويبتعد بذلك عن الغفلة وعن النوايا السيئة، وعن أودية الدنيا، فتذهب عنه الحالة السيئة التي هو فيها؟

 

وهذا الذِّكر - وهو قول: حول ولا قوة إلا بالله -  من الذكر الذي يجتمع به القلب ويلم به شمله ويقبل به على قلبه ويجعل همه هما واحدا هو هم الآخرة إذ أن أهم الهموم أن يقوم لله تبارك وتعالى كما أراد منه جل وعلا، ومن أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه شمله لترى كيف السبيل إلى هذا المعنى ؛

ولترى الحال التي أنت فيها ، وهي من أصبح وهمه الدنيا فإن الله تبارك وتعالى يشتت عليه شمله ويجعل فقره بين عينيه ولا يؤخذ من الدنيا إلا ما كتب الله له، وهذا الحال الذي يبين لك السبب لماذا قد تشتت عليك الشمل، ووجدت فقرك بين عينيك، وخوفك من الغد واليوم، ويُبيِّن لك  هذا الذهول الذي يُصيب المؤمنين فيلهيهم عن آخرتهم، وعن ربهم،  وعن ذكرهم،  وعن صفاء قلوبهم وأذهانهم لتلقي هذه المعاني من نور الله تبارك وتعالى الذي يقذفه في هذه القلوب المحبة المؤمنة كما ذكر الله تبارك وتعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي

مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ

مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)  (الشورى 052-053).

 

إلى رأس المقالة


 

(1) رواه الإمام أحمد فى مسنده (2/  158 ط. الميمنية) وقال الشيخ شعيب في التحقيق: إسناده صحيح على شرط الشيخين. اهـ ، و بنحوه ابنُ خزيمة (1974) وابن حبان (11) فى صحيحيهما.

(2) رواه الطبراني في الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410).

(3) رواه الإمام البخاري في صحيحه (1178) ومسلم (721) كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(4) رواه الإمام الترمذي في سننه (2863) وقال : هذا حديث حسن صحيح .

(5) رواه الإمام أحمد في مسنده (21080) والترمذي في سننه (2465) وقوى الحافظ العراقي إسناده في تخريج الإحياء (4/271).

 

 

 

 

 

_________________________________________

روابط ذات صلة :

مجموعة مقالات: أَجْمَلُ النَّسِمَاتِ من مقالات الأَشْهُرِ المَعْلُومَاتِ  

 

ملف "أحوال أهل الإيمان في الأشهر المعلومات"

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام : هذه المقالات  استخرجها محررو الموقع  -بحسب ما أدى إليه فهمهم واجتهادهم  - من  كتاب ماذا بعد رمضان - الطبعة الثالثة , وقد تم التصرف فيها كثيرا لتبسيطها ولكي تتلاءم مع طبيعة مقالات الإنترنت وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر التي يحتويها  ذلك الكتاب , لذا فإن أي خطأ يتحمله المحررون وحدهم ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به , ولا تنس أخي الكريم أن  أصل الكتاب  تفريغ لخطب صوتية  ,  لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليه , وأصل الكتاب منشور على الإنترنت (الطبعة الأولى فقط) , فارجع إليه إن شئت للاستفادة,  والله الموفق.

 

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله