فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / وظائف شهر شعبان - الوظيفة  السادسة : الانكباب على كلام الله تعالى وإدمان تلاوته- الجزء الثاني      

 

 

الوظيفة السادسة : الانكباب على كلام الله تعالى وإدمان تلاوته.

الجزء الثاني         

            وفي هذه الجزئية النقاط الآتية:

 أحوال المؤمنين مع القرآن:

       الحالة الأولى الخشوع

       الحالة الثانية وهي البكاء

                      الحالة الثالثة قشعريرة الجسد

                      الحالة الرابعة زيادة الإيمان

                      الحالة الخامسة  التأدب مع كلام الله

                     الحالة السادسة حضور القلب والتدبر

                           من معاني التدبر:

                                المعنى الأول التفهم

                               المعنى الثاني التخصيص

                               المعنى الثالث التأثر

                        موانع الوصول إلى أنوار وبركات وشفاء القرآن

كيف يسعد المؤمنون بكلام الله تعالى ويتنعمون بالإقبال عليه وتلاوته؟

التحذير من التسويف في الأعمال الصالحات

 

 

     

----- أحوال المؤمنين مع القرآن الكريم-----

 

------ الحالة الأولى الخشوع ------

الله تعالى قد ذكر أحوال المؤمنين مع القرآن فقال:

﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الحشر:21].

ومعنى الآية: أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل رأيته خاشعًا، متواضعًا، ذليلًا, و"متصدعًا" يعني: قد تشقق من نزول القرآن عليه؛ من خوفه وتأثره به.

﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا﴾ لأولئك الذين لم يصلوا بعد إلى حالة الجبال الصُّم، وإلى هذه الصخور الصلدة بحيث لم يتأثروا بالقرآن، ولم يخشعوا عنده، ولم يتصدعوا لوعده ووعيده، ولم يكن سبب موعظتهم، وسبب خشوعهم، وسبب تَذَلُّلِهم وانكسارهم، وبالتالي سبب إقبالهم على ربهم، وحزنهم لما فاتهم من حظهم من الله تعالى.

وكأنَّه يعيب عليهم أنَّ الجبال لو نَزَلَ عليها القرآن ما كان حالها كحالهم ؛ فالجبال الرواسي، هذه الجلاميد الصماء حالها أفضل حالًا من هذه القلوب القاسية التي ينزل عليها القرآن  فلا تتأثر، ولا تخشع، ولا تتذلل، ولا تتواضع هذه حالهم.

 

----- الحالة الثانية وهي البكاء -----

 

والحالة الثانية وهي البكاء: ذكرها القرآن الكريم كذلك ليبدأ المرء ليتمرن عليها في هذه الأيام بعد الاستماع كما أشرنا، والتدبر والإنصات وحضور القلب؛ ليكون سببًا في أن يأتي "رمضان" وقد امتلأ قلبه من كلام الله تعالى، فيكون سببًا لنزول الرحمة والعتق من النار، وأن يخرج من "رمضان" لا كما دخل فيه كما قال النبي: ((وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ))([1]).

هذه المواعظ التي تهيؤه لِئلَّا  يُحَصِّل الخسارة والخيبة مرة أخرى.

لذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً *وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُول* وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾ [الإسراء:107- 109].

ينبغي أن يكون المؤمنون إذا تُلِيَ عليهم هذا القرآن خروا له سُجَّدًا وبُكيًّا كما في الآية التي ذكر الله تعالى في سورة مريم، وفي قوله جل وعلا: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً﴾[مريم:58].

وهذا معناه أنهم إذا سمعوا هذه الآيات أصابتهم بهذا البكاء الذي يَدُلُّ على تأثرهم ، إذا بالبكاء هو أسرع شيء إليها؛ لأنها قد رأت الوعد والوعيد، وشاهدت مشاهد الآخرة، واقتراب رحيل الدنيا، وشاهدت القبر وعذابه ، والبعث وما فيه من أهوال وكُرَب، وشهادة موقفها بين يدي الله تعالى الذي يَبْعَثُ على البكاء ليلهم ونهارهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن يبكي، ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المِرْجَل، وهو القِدْر الذي يغلي الماء فيه , وكما صورهم  الله سبحانه وتعالى فأجلى صورتهم وحسَّنها: ﴿إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾ .

 هذان الأمران: البُّكاء، وزِيَادَة الْخُشُوع.                    

لذلك: كان "ابن عباس" إذا تُليت الآية يقول: انتظر! هذا هو السجود فأين البُّكاء؟

لذلك كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: ((ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بَكَاء فَتَبَاكُوا))([2]). يعني: إذا لم يبكِ المرء،   اتلوا وابكوا، فإذا لم تبكوا فتباكوا، وهي حالة تُظهِرَ مدى ما تأثر القلب به من خشوع، فيظهر هذا الخشوع على الجوارح بقشعريرة الجلد , قال تعالى : ﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾[الزمر:23]

وإذا لم يستطع المرء أن يبكي، أو أن يتباكى فليبكِ على موت قلبه، فليبكِ على حاله التي لم  تصل إلى هذا التأثر،

فهذا الموضوع إذًا من أهم موضوعات الدين ، أنَّ لا ترى نفسك خاشعًا متصدعًا باكيًا عند قراءة القرآن.

 

----- الحالة الثالثة قشعريرة الجسد ----- 

 

وقد بيَّنت هذه الآيات معنًى آخر من المعاني التي تكون عليها حالة المؤمنين كما ذكر الله -تبارك وتعالى- في قوله:

﴿ مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾[الزمر:23].

إذا كانت أعينهم تبكي عند سماعه فهذا القرآن كذلك عند سماعه تقشعر جلودهم له؛ خوفًا وخشية من وعيد الله تعالى فيه ، ومما ذكر، ثم يصيبهم الرجاء والرحمة، فتلين هذه القلوب مرة أخرى لله تعالى.

فالخوف والرجاء، بإِلَانِة هذه القلوب يستطيع المرء أن يسير إلى الله تعالى.

فهذه القشعريرة التي تصيب أجسامهم، وهذا البكاء الذي يصيب كذلك أعينهم، إنما هو دليل حياة القلب، ودليل الإقبال على الرَّب، ودليل الاتعاظ بالموعظة والتَّذكر بهذه الذكرى التي أشرنا الله -تبارك وتعالى- بها إلى المؤمنين.

 

والمرء لا يحتاج إلى أن نقول له انظر إلى حالك أيها المسكين !! أين بكاؤك وخشوعك الذي تذكر ؟!،

 

----- الحالة الرابعة زيادة الإيمان ------

 

ونبين حالة المؤمنين الأولى في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً  ﴾[التوبة:124].

فإذا كان الخشوع والبكاء الذي ذكرنا، وقشعريرة الجسم، والتأثر، والتصدع الذي ذَكر الله تعالى دليله على أنَّ هذا الكلام صادق، وليس كَمَن يسمع القرآن، فيبكي، ثم ينصرف إلى لَهْوِهِ مرة أخرى، وإلى دُنْيَاه، وكأن شيئًا لم يكن، أو يقشعر جلده شيئًا ،ثم يعود مرة أخرى إلى ما كان فيه من اللهو واللعب والغفلة، لا، وإنما قال المولى:﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ﴾ وهذه فيها معنيان :

المعنى الأول: هو تواصيهم سمع القرآن؟ نعم ، ماذا أفادك القرآن؟ ازددت به إيمانًا أو لا؟ ارتفعت به درجة الإيمان أو نزلت؟ ازددت به قُربًا ومحبة لله تعالى؟

 ازددت به طاعة واقترابًا من الله سبحانه وتعالى؟ ازددت به زهدًا في الدنيا وإقبالًا على الآخرة؟ ازددت به رفعة ودرجة عند الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هو حال صاحب  القرآن : ((« يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا ))

 

 ﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ﴾ ؟ فهل من سائل يسأل عن ذلك اليوم؟!

 

المهم: زادتهم إيمانًا أو لا؟ الجواب : ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾[التوبة:124].

قوله :"يستبشرون" ، لقد حُذِفَ مفعول الفعل هنا؛ ليؤكد عموم الاستبشار، يعني: يستبشرون بماذا؟ يستبشرون بكل شيء,  بكل ما يكون سببا لبشراهم في الدنيا والآخرة من فضل الله تعالى,  يستبشرون بزيادة الإيمان، يستبشرون برحمة الله، بفضل الله، برفع درجاتهم، يستبشرون بأن الله تعالى قد أحبهم، أن -الله تبارك- وتعالى  أعدَّ لهم الثواب الجزيل، وأن الله تعالى قد قبلهم، وأن الله تعالى قد رفع درجتهم بكل ما يمكن أن يكون من بشارة يستبشر بها المرء في الأولى، تريد بها الدار الآخرة، ويريد بها ما عند الله تعالى.

﴿ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ﴾[التوبة:125]. نعوذ بالله  تعالى من ذلك، ونحن في حالة بين الحالين فانظر إلى اصلاحها.. وانظر إلى ما ينبغي أن يكون القرآن على قلبك..

  

 

-----الحالة الخامسة  التأدب مع كلام الله -----

 

أول ما يتميز به تالي القرآن هو أن يكون متأدبًا مع كلام الله تعالى، لا على هذه الحالة التي نراها في أنفسنا اليوم، بل يكون متوضئًا، مُسْتَقْبِلَ القبلة، مُتَخَشِّعًا، مُطْرِق الرأس، جالسًا كأنه يجلس بين يدي أستاذه الذي يعلمه كلام الله تبارك وتعالى، مُقبلًا على كلام الله جل وعلا.

 

فإذا ما تحقق له ذلك فإنه يوشك أن يُقْبِل على كلام الله تعالى ، أما تلك الحالة التي ذكرها العلماء أن يكون مُتَّكِئًا، أو مائلًا، أو مُتكبرًا، أو على حالة من الحالات التي تبين عدم اهتمامه وتعظيمه لكلام الله تعالى، وأنه  يتلوه كما يتلو كلامًا آخر، أو يقرأه ويُقْبِل عليه كما يُقْبل على شيء مِن الدُّنيا، يتساوى عنده كلام الرَّب وكلام العبد، لا!.

لذلك كان المؤمِن على تلك الهيئة من هيئات الأدب والخشوع والإقرار والإقبال الحسنة ينتظر ذلك الفضل من الله تعالى، وإن كان على أي حال يأخذ فضله، ويأخذ أجره، ولكنه كما قال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾[آل عمران:191].

فبَيَّن أحسن أحوالهم أن يقرؤوا قائمين، أو أن يذكروا قائمين، ثم قاعدين، ثم مضطجعين، فمدح الكل، ولكنه قدَّم هؤلاء القائمين..

لذلك استنبط أهل العلم منها:

أن أحسن حالة، وأتم هيئة يقرأ فيها كلام الله تعالى أن يكون قائمًا في الصلاة في المسجد؛ فهي تلك الحالة التي ينبغي أن يَتَحَلَّى بها المرء كما قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾[المزمل:1،2].

فهذه الحالة التي ينبغي أن لا ينساها أهل الإيمان، وأن يُلازمها:

حالة الترتيل، وحالة البكاء.

وهما الحالتان اللتان يُقصِّر فيهما المرء في قراءته لكلام ربه، وبالتالي تقل عظمة الكلام في قلبه، ويَقِلُّ أجره وثوابه، ويقل انتفاعه بهذه الآيات الانتفاع التي ينتفع بها القلب ويحيا، والتي ينتفع بها المرء فَيُقْبِل على الله تبارك وتعالى، ويجد حلاوة الإيمان، وحلاوة الطَّاعة، وتَخِفُّ عليه أسباب النكد والضيق، أسباب المعصية وشؤمها، يخف عليه ذلك كله فإذا به إنسان جديد مُقْبِل على ربه يتدبر آياته ويتلوها.

والترتيل يبين هذا المعنى-ليست هذه الْهَذْرَمة التي يقرؤها النَّاس اليوم- وليس هذه القراءة التي لا يتدبرون فيها كلام الله تعالى، وإنْ كان مِن فضله وكرمه وجوده سبحانه وتعالى أن يُعْطِى لكلِّ تالٍ لكلامه من الأجر ما يناسبه لا يَحْرِمُ أحدًا، إلا أن يخرج عن حد التدبر، والتفهم، وحضور القلب، فأنى يكون ذلك مقبلًا على ربه إذ لا يقبل الله تعالى من القلب اللاهي الغافل عن الله جل وعلا؟

 

 

----- الحالة السادسة حضور القلب والتدبر -----

 

حضور القلب والتدبر هي الحالة التالية التي ينبغي أن يكون عليها تالي القرآن الكريم؛ ليكون له عبرة وغذاء وشِفاء ونورًا وهداية ورحمة، يستمطر كما يمكن أن يكون في "رمضان" يستعد بها لـ"رمضان" وبعد "رمضان"، وأن يكون ذلك دأبه وحاله الذي يكون مع الله تعالى، هذه الحالة وهي حضور القلب والتدبر.

وحضور القلب: ذكر العلماء في قوله سبحانه وتعالى :﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾[مريم:12].

أنه معناه: أن يكون إقباله على كلام الله تعالى، مُنْصَرَف الهمة إليه، لا إلى غيره، يعني: أن يأخذ الكتاب بِجِدٍّ.

قيل لبعضهم: هل تُحَدِّثُك نفسك بشيء  إذا كنت تتلو كلام الله؟

قال: وأي شيء أحب إليَّ من كلام الله تعالى حتى تحدثني نفسي به؟!

 

أيها المسكين: أي شيء أحب إليك من كلام الله، ليكون هذا الشئ توسوس لك به نفسك؟

 

وانظر إلينا اليوم !! كيف يُقبل المرء على كلام الله تعالى، فينتفي عنه الخشوع والتَّدبر والإقبال، وإذا به في سوقه ومشاكله ، وولده ، وماله ، وعِرَاكه وشِجاره وما كان، وما يمكن أن يكون حتى يخرج عن كلام الله تعالى، في صلاة أو في غير الصلاة، وإن كان عنده بقية من إيمان يقول: إنْ شاء الله! في الصلاة التالية أكون أحسن! هذه الحالة لا خشوع فيها ولا تدبر ولا إقبال.

ومن ثم ينبغي أن يُقْبِل بقلبه على الله تعالى، أي شيء أحب إليك من الإقبال على الله؟

أي شيء أحب عندك، وأرفع عندك وأعلى درجة عندك من النَّظر في كلامه، وصرف الهمة إليه، وحضور القلب عنده، إذا لم يحضر قلبك عند ذلك فعند أي شيء يحضر القلب؟ 

وفي أي شيء يتدبر القلب؟

لقد كان من عادة السلف الصالحِ، وقبلهم كان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يتلو كلام الله تعالى على الحال التي أشرنا، ثم كان يقف عند الآيات، ذكروا أنَّه قام بآية واحدة يرددها طوال لَيْلِهِ صلى الله عليه وسلم، ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة:118].

طوال ليله صلى الله عليه وسلم يقرأها، وقف عندها لا يتعداها، لِما ورد على قلبه صلى الله عليه وسلم من المعاني، ولما ورد على قلبه من التدبر والتفهم، يقف عندها هذه الآية وكان ذلك حال كثير من سلف الأمة الصالحين، وعباد الله المتقين.

 

 

----- معاني التدبر-----

 

والتدبر له معان أُخر، وهو: التفهم, التخصيص، وبعد ذلك التأثر، ونفهم هذه المعاني:

----- المعنى الأول للتدبر: التفهم -----

أي أن يتفهم المرء من كل آية ما يليق بها، فالقرآن الكريم قد احتوى على أسماء الله تعالى وصفاته، وعلى أفعاله، وعلى ذِكْر الأنبياء وما حدث لهم، وعلى ذِكر المكذبين ، وكيف أهلكهم سبحانه وتعالى، وعلى ذِكر الجنة، وعلى ذكر النار في آياته.

فهذه الآيات التي وردت في القرآن الكريم حَظُّك من تدبرها، وحظك من تفهمها أنك إذا تَلَوْتَ كلام الله أن تمر عليك الآية فتعلم منها ما أشار الله تعالى لك به، أو شيئًا مما يريد الله تعالى أن يصل إليك، أو أن يَعْقِلُُهُ ذهنك وقلبك، أو أن يتدبره قلبك في هذه المعاني.

تُراه نزلت هذه الآيات حتى لو لم تكن هذه الآيات إلا في القَصَص والوعظ والوعد والوعيد، تُراها نزلت للسمر؟ تُراها نزلت للتسلية؟ أو أن ذلك كله كما قال تعالى : ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [صّ:29].

 

أين إذًا أنت من هذا المعنى المهم حال قراءتك؟

ولا يتمكن المرء إِلَّا أن يُقدِّم حالة من الأحوال المهمة العظيمة التي ينبغي أن يتحلَّى بها قلب المؤمن حال قراءة القرآن الكريم، وهي التي يسمِّيها العلماء "تعظيم المتكلم".

يعني: عندما تتلو كلام الله تعالى فإنما ينبغي عليك أن تستحضر عَظَمَة من يكلمك جل وعلا، أو شيئًا من تلك العظمة، وأن تعلم أن الكلام الذي تتلوه ليس من كلام البشر، وإنما هو كلام الرب -جل وعلا- الذي يجب عليك أن تُعَظِّمَهُ التعظيم اللائق به,   قال سبحانه وتعالى : ﴿ مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ﴾[نوح:13].

أن يُعَظِّمَهُ كما يعظمه أولوا الألباب؛ لعلهم يتفكرون كما قال المولى سبحانه وتعالى ذلك.

وأما عن كيفية تعظيمه: فقد رأينا سلف هذه الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم كيف كانوا يُعَظِّمون هذا الكلام الذي هو كلام الله تعالى، وتعظيم كلام الله تعالى يأتي من تَفَكُّرَكَ في عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فإذا ما نظرت إلى خلقه، إلى العرش والكرسي والسماوات والأرض والجبال والنَّاس، وما في الظاهر والباطن والبحار والخلق، وغير ذلك عَلِمْتَ تلك العظمة، أو شيئًا من عظمة الله تعالى، كل ذلك بيده ، وكل ذلك تحت قدرته، وكل ذلك نافذ فيه أمره سبحانه وتعالى ، لا تخرج ذرة من تلك الذرات من تحت حكمه سبحانه وتعالى ، كل دابة آخذ بناصيتها، لا يُرَتِّب في الخلق إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يحييهم ، ولا يميتهم ، ولا يزيدهم ، ولا ينقصهم ولا يجمعهم إلا الله تبارك وتعالى.

وانظر إلى معنًى مهم من معاني عظمته جل وعلا أن يقول: ((هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي))([3]).

يستشعر قلبك حينئذ تلك العظمة، أو شيئًا منها، فَتُعَظِّم كلامه سبحانه وتعالى، ويرتفع في قلبك هذا التعظيم، وهذا التوقير، وهذا الإجلال لله تعالى، فيكون ذلك مُساعِدًا لك على معاني التفهم التي أشرنا إليها.

أن تتفهم من كل آية فيها أسماؤه وصفاته، وفيه حكمه وأفعاله، وفيه أحوال الأنبياء، وفيه أحوال المكذبين، وفيه أحوال الجنة والنَّار والبَعْثِ والنُّشُور..

كل ذلك موجود في كلام الله تعالى، أين نصيبك وحظك من التفهم عنه سبحانه وتعالى ؟

أين حظك من تدبره والإقبال عليه الذي أمرك به سبحانه وتعالى ؟!

أَأُنْزِلَ كما ذكرنا للتسلية؟!!

فيه أسمائه وصفاته، وهي البحر العميق الذي به عَلَّمَكَ الله تعالى الإقبال عليه، أن تعرف منه أنه الملك، أن له مملكة فيها تصرفًا وتدبيرًا، وأمرًا، ونهيًا، وإعطاءً، ومنعًا، وأنت تنظر في أنه الملك القدوس السلام المؤمن، وأن تعرف آثار هذه الأسماء، وتلك الصفات في خلقه، وأن الخلق كله إنما هو أثر من آثار تلك الأسماء، أو من بعض هذه الأسماء والصفات التي ذكرها الله تبارك وتعالى، فهو الخالق، فالخلق أثر من آثار هذه الصفة، وهو الرازق فالرزق أثر من آثار هذه الصفة، وهو الملك فتلك المملكة أثر من آثار صفته الملك، وهو السلام، وهو المؤمن، وهو القوي، وهو الغني سبحانه وتعالى، وهو الغفار، وهو الوهاب، وهو البر، وهو الرحيم، كل تلك آثار من آثار أسمائه وصفاته التي ينبغي أن تُوَحِّدَهُ بها، وأن تدعوه بها، وأن تُثْنِيَ عليه بها، وأن تتعلق به سبحانه وتعالى فيها؛ ليكون لك حظٌ منها، ليكون ك إقبال عليه بها، فتنقلب حالك إلى تلك الحال، حال المتعلقين بربهم، الفاهمين عن ربهم، المُوَحِّدين لربهم، المحبين لربهم، المتقربين لربهم الذين يرفع درجتهم ويُعْلي منزلتهم، ويأخذ بأيديهم، ويحفظهم، ويُوَفِّقهم ويسددهم، أهل القرآن أهل الله تعالى وخاصته.

 

وكذلك: أن تتفهم من خلقه وفعله ما يليق بكل آية منها، ذكر أهل العلم في هذا السياق بالذات قوله سبحانه وتعالى:

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾[الواقعة:58، 59]، ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ﴾[الواقعة:63]، ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴾[الواقعة:68]، ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾ [الواقعة:71]

هذه آيات قليلة من بقية هذه الآيات في كلام الله تعالى، ولها -أي: لهذه الآيات- تلك المعاني التي ينبغي أن تتفهمها ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ﴾ تُراه يقصد ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ﴾: هذا المنيّ الذي يكون سبب الولد وانتهت هذه المسألة عند هذا المعنى؟  فهذا يشترك فيها المؤمن والكافر..

أما المؤمن الذي يتفهم عن الله تعالى، فإنما يبلغه شئ يكون سببًا لفهم عظمة الله تعالى، وقدرته وقوته، سببًا ليقربه إلى الله تعالى، دليلًا على قوة الله تعالى وقدرته سبحانه وتعالى؛ ليكون قائدًا لك إلى معرفته، إلى محبته، إلى توحيده، إلى معرفة شيء من عظمته سبحانه وتعالى، فهذا السائل الذي ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الماء المهين الذي أشار إليه، انظر إليه، وقد خرج إلى أعصاب، وإلى عظام، إلى كذا وكذا، ثم خرج بعد ذلك إلى السمع والبصر والفؤاد، ثم خرج إلى هذا الإنسان السَّوي، ثم تركبت  فيه الصفات الشريفة والصفات الرديئة من الحقد والغلِّ، والحسد، وحب الدنيا، والشهوات,  كل ذلك في هذه الآية ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ *أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ ﴾.

هذا الخلق الذي تراه بعد هذا الأمر هو الذي خلقه الله تعالى ليُنَبِئك، وليرشدك، وليأخذ بيدك إلى معنى الخلق، والقدرة، والإبداع، وإلى عظمة الخالق سبحانه؛ حتى تقول سبحان الله، وبقية الأمور كذلك ، وأما أحوال الأنبياء، وما ينبغي أن تتفهم منه، فقد رأيت أحوال الأنبياء ، ودعوتهم وصبرهم ، ومواصلتهم ومثابرتهم، وكيف كذبهم النَّاس، فلك في ذلك أن تتفهم كيف أنَّ الله تعالى في بداية الأمر مُستغنٍ عن الرَّسُول والْمُرسَل إليه، مُستغنٍ عن الخلق جميعًا سبحانه وتعالى، وما أرسَل الرُّسُل ليُعَذَّبوا، وليُؤذوا، وليقع لهم ما حدث، وإنما أرسلهم ليعتبر المعتبرون بعدهم ؛ بصبرهم وثباتهم على دعوتهم، على طول دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، وكذلك بعد هذا كله ، منهم ينتظرون نصر الله سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى أيَّدَهم ونصرهم في نهاية المطاف، مع ما بين سبحانه وتعالى من قوة تحملهم، وسعة صدرهم وطول دعوتهم، وأمدهم، آمن بهم النَّاس، أم لم يؤمنوا كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكيف كانت دعوتهم إلى توحيده، وإلى نبذ عبادة غيره سبحانه وتعالى، وأنهم لم تَلِن لهم قناة، ولم تضعف لهم عزيمة، ولم يَهِن لهم قلب حتى  لاقوا سبحانه وتعالى.

لك في ذلك التفهم الذي ينبغي أن يكون الدافع لك، والقوة المُحَرِّكة لقلبك، والصبر الذي يحيط بدعوتك وعملك، والثبات والقوة، وقوة الإرادة، وقوة العزيمة، ومواصلة السير إلى الله تعالى، وفي نفس الوقت انتظار نصر الله جل وعلا.

وهذه أحوال المكذبين: تتفهم منها كذلك ما بَيَّن الله تعالى:

أنَّ المكذبين عاقبتهم كما حدث لقوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، ولقوم فرعون كل أولئك لم يأخذوا مع الله تعالى شيئًا، وأنهم مهما عَلَوْ واستكبروا وطال أمدهم، وزادت قوتهم، وارتفعت دولتهم، إذا ما كذَّبوا ربهم، وإذا ما خالفوا رُسُلهم، وإذا ما بغوا وطغوا وظلموا فإن نهايتهم النهاية التي ذكر الله تعالى: ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ﴾[العنكبوت:40].

والآية: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾[العنكبوت:40] إنما بَيَّن ذلك؛ ليكون صبرًا للمؤمنين، وشفاءً لقلوبهم، وانتظارًا لفرج ربهم بعد ثباتهم على دعوتهم، وانتظارهم لنصر ربهم، وعدم يأسهم وقنوطهم مهما طال ظلام أيامهم وسواد ليلهم أن يَنْشَقَّ ذلك الفجر من نصرة الله تعالى لهم، وأن يزيل دولة الكفر -سبحانه وتعالى- التي جثمت على دنيا المؤمنين اليوم ، وذِكْرُ الجنة والنار، والصراط، والبعث، والقبر، والهول، والنشر .

كل ذلك لك أن تتفهم منه ما يكون سببًا لعبرتك، وسببًا لخوفك، وسببًا لإقبالك على الله تعالى، وسببًا لتوبتك، ومحاسبة نفسك، وأخذ نفسك في اللحظات، والأنفاس لِتَعُدَّ عليها ما يكون سببًا لنجاتك من النار، لدخولك الجنة، لفوزك بِقُرْب الرب سبحانه وتعالى، ورضوانه جل وعلا، وهذه مليئة كما ذكر القرآن الكريم من تلك المعاني التي يَمُرُّ عليها المؤمنون كما قال تعالى:

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾[يوسف:105].

وذلك ما ينبغي أن يكون من حال المؤمنين اليوم، أو حُزْنًا على ترك هذه الحال، أو تَفَكُّرًا، ومجاهدة على إصلاح ذلك الحال..

 

 

----- المعنى الثاني التخصيص -----

 

هو أن تعلم أن كلام الله -جل وعلا- أنت المخصوص به، إنه يخاطبك أنت بهذا الكلام، أن الله -تبارك وتعالى- يُخَصِّصُكَ بالكلام والحديث، فمثلا يقول:

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾[آل عمران:133] فأنت مُطالَب بها ..وهي لك.

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾[الإسراء:23]، أنت مُطالَب بها.. وهي لك.

﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ ﴾[الإسراء:35]، ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾[البقرة:43]، أنت مطالب بذلك كله، ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾[الأعراف:199]، كل تلك الآيات أنت مُخَصَّص بها.

علم الصحابة أنهم هم المخصوصون بهذه الآيات، فتنافسوا فيها لما قال:

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾[آل عمران:133] علموا أنهم هم المخصوصون بذلك، المطالبون به، فسارعوا إلى هذه الأوامر ونفذوها.

 

واعلم: أن كلام الله تعالى إنما يحتوي على تلك الأوامر، وتلك النواهي، وذلك القَصَص، حتى هذا القصص أنت مأمور بالاعتبار به، وأنه مُتَوَجِّه إليك بالعظة والتذكر..

كل ذلك أنت مُطالَب به، وأنت غافل عنه، وأنت مُقصِّر فيه، مع أنه مادة حياتك، ومادة رحمتك، ومادة هدايتك، وفي نفس الوقت أنت مسئول عنها عند الله تعالى، أنت تتلو كلام الله جل وعلا، ولا تنفذه..  كهذا العبد السيئ الذي أتاه كتاب ملكه أن يفعل كذا وكذا، وكذا، وأن يهيئ كذا وكذا، وكذا، وأن يُرَتِّب  كذا وكذا، وكذا، فأخذ كتاب الملك، وأخذ يقرأه ويتلوه ويُغْلِقَه، يقرأه ويتلوه ويغلقه، ولم يفعل من ذلك شيئًا..

تُراه أحق بالمَقَتِ، وتراه أحق بالغضب، وتراه أحق بالتنكيل والتعذيب، أو لا؟

ينبغي أن يعلم المؤمنون أنهم هم المخصوصون، هم المطالبون فما من آية فيها أمر، ونهي، وزجر، وتوحيد، ووعد، ووعيد وكل ذلك إلا وهي مُتَوَجِّهة إليك بالخطاب، إلا وهي تُخَصِّصُك بالقول، إلا والله تعالى يقول لك فيها ذلك، وينبئك بما فيها سبحانه وتعالى..

حتى ذلك القصص الذي ذكر الله -جل وعلا- قال:

﴿ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[هود:120]، يَقُصُ هذا القصص على النبي؛ ليثبت به فؤاده..

أنت مخصوص بذلك كذلك، بأن يكون ذلك القصص مثبتًا لفؤادك، رابطًا على قلبك، تنتظر به نصر ربك سبحانه وتعالى، ولك حظ فيه كما هو الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخذ هذه الأوامر والنواهي والزواجر والوعد والوعيد في تلك الآيات التي تقرأها، وأنت عنها غافل، والتي يُكَلِّمك فيها الله جل وعلا، وأنت لا تنظر في أمره ونهيه، والتي يُحَدِّثك فيها، وأنت ملتفت عنه، والتي يأمرك بها، وأنت تتلوها وتغلقها، والتي ينهاك عنها، وأنت تتلوها وتغلقها كذلك..

تراك تنتظر ماذا إذا كان تخصيص ربك بكلامه لك، وأنت لا تُخَصِّص نفسك به، ولا تستدعي بذلك شيئًا من نفسك ؟

 

 

 

----- المعنى الثالث التأثر -----

 

 ومما يجب أن يَتَّصف به المرء حال قراءة القرآن أن يكون متأثرًا بكل آية بما يليق بها من حال ، سواءً كانت في الرجاء أو في الخوف أو في الحزن، فإن غالب القرآن الكريم إنما هي الخشية،  فتالي القرآن لابد وأن تغلب عليه خشية الله تعالى؛ لأن آيات القرآن لابد وأن يُنَزِّلُها المرء في كل حال قلبه، فآيات التخويف والوعيد والآخرة والقيامة والأهوال لابد وأن تعتري القلب حالة من حالات الخوف بتلاوتها، وإذا كانت هذه الآيات تتكلم في الرجاء، وفي الجنة، وفي العمل الصالح، وفي رضا الله تعالى وفي مسامحته وتجاوزه يَغْلِبُ على قلبه الرجاء،.

وإذا كانت الآيات تُبَيِّنُ مقامات الصالحين، وأعمال أولئك المتقين، رأى المرء نفسه بعين التقصير والتفريط، فيغلب حال الحزن على قلبه.

وهكذا لابد وأن تكون تلك الأحوال ملازمة للقلب، وإذا استمرت هذه الأحوال غلبت الخشية على قلب المرء؛ لمعرفته عن ربه، ولفهمه عنه كما قال:

﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾[فاطر:28].

حتى تكون الخشية هي الملازمة لقلب المؤمن؛ لأن آيات التخويف كثيرة، وحتى آيات الرجاء أيضًا تراها إذا أمعنت النظر فيها وجدتها آيات مخيفة.

انظر إلى تلك الآيات التي ظاهرها الرجاء ،وباطنها التخويف الشديد: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ ﴾[طـه:82]، وإذا به يقول: ﴿ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ﴾، فإذا استبشرتَ بأنه غفار وجدت أن الطريق إلى المغفرة، والأسباب التي عَلَّق الله تعالى عليها المغفرة من الصعوبة بمكان، فيغلب على قلبك الحزن خوفا من ألا أن تتصف بها، أو لا تقوم بتحقيقها، فيكون الخوف كذلك حتى في آيات الرجاء غالبًا على قلب المرء؛ حتى ينشرح بعد ذلك برحمة الله، تَلِين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله -سبحانه وتعالى- كما هو حال المؤمنين الذي أشرنا إليه.

وهذا التأثر ينبغي أن نراه على أحوال المؤمنين، أما أن يتأثروا قليلًا بالموعظة، وهي الحالة التي نحن فيها، ثم يخرج لتنتهي تلك الحال، ويعود إلى ضحكه ولهوه، وإلى كلامه، وإلى غفلته، وإلى معافسته أهله وولده، وإلى انشغاله بدنياه، وشغله، وماله ليس ذلك خوفًا محمودًا، وإنما الخوف المحمود هو الخوف الملازم للقلب الذي يمنع المرء من الوقوع في المعصية، والذي يحمل المرء على الطاعة، ويسارع به إلى رضا الله تعالى، وألا يراه حيث نهاه، وألا يفتقده حيث أمره، وأن يكون متوجسًا ليومه وغده، مُتَرَقِّبًا لرحيله، وسرعة الانتقال إلى الله تعالى.

هذا الحال الذي ينبغي أن يكون حال المؤمنين اليوم، فإذا ما قرأ تلك الآيات التي ظاهرها الرجاء، وباطنها التخويف خاف حتى كاد أن يَنْمَحِقَ من الخوف، وإذا قرأ آيات الجنة استبشر، وطار بها فرحًا، وإذا قرأ الآيات المتعلقة بربه وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى إذا به يحني لله تعالى جبهته خشوعًا، وإجلالًا، وتعظيمًا، وإقبالًا، وتعلُّقًا، ورجاءً في الله تعالى، وثقةً، وتوكلًا، فكلما مرَّت عليه آية تغير حاله بما يناسبها.

 

أما حال الغفلة التي نحن فيها فلا يُرجى من وراءها شيء، لذلك قيل في هذه المعاني: لابد وأن يتحقق بها أو ينوي ذلك وإلا كان حاكيًا، يعني: لابد أن يُشْرَبُها قلبه، وأن تظهر على حاله، وتصرفاته، وأخلاقه وإلا لم يكن قارئًا للقرآن الكريم، وإنما يحكي هذه الأقوال التي يسمعها، فإذا قرأ قوله سبحانه وتعالى في مثل هذه الحال ﴿ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾[الممتحنة:4].

لابد أن يغلب على قلبه حال "التوكل والإنابة والفهم" عن الله تعالى، وإذا قرأ   ﴿ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾[الأنعام:15].

وهو يقرأها ويتلوها لابد أن يغلب على قلبه الحال المتعلق بهذه الآية الكريمة من خوف العصيان وعظم العذاب, وسرعة الإقلاع والندم وعدم الخوف أو أن ينوي ذلك,وإلا كان حاكيًا مرددًا بلا فهم، وبلا تدبر، وخارجًا عن تدبر الآيات التي أمر الله تعالى ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الانبياء:10].

 

وكذلك إذا ما قرأ قوله تعالى: ﴿ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ﴾[إبراهيم:12].

فلابد أن يتصف بهذا المعنى، أو أنه ينوي أن يتصف به، أما أن يقول: ﴿ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ ويخرج إلى المعصية والغفلة، ويخرج إلى البعد عن الله تبارك وتعالى، تراه قارئًا للقرآن متأثرًا به، فاهمًا عن الله تعالى، قد تَوَجَّه الخطاب إليه، أم أن هذا الخطاب مُتَوَجِّها إلى غيره؟

الله تعالى يخاطبك وأنت تقرأ القرآن... فهل يخاطب به غيرك، أم أنت تتلوه لتعلم ما فيه؟

وهذه حال العبيد العصاة الذينَ ذكرنا : أنه قد جاءهم كتاب الملك فأخذوا الكتاب، وفيه أن يفعلوا كذا وكذا، وأن يتصفوا بكذا وكذا، وأن يحققوا كذا وكذا، وأن يقوموا بكذا وكذا، وهم يقرؤون الكتاب ويغلقونه ويصبحون، أو ينامون ثم يصبحون فيقرؤون الكتاب، ويغلقونه مرة أخرى.

لذلك: لا يكون تاليًا، بل يكون مرددًا، حاكيًا، بعيدًا عن حاله، بعيدًا عن قلبه، بعيدًا عما يطلبه منه ربه، بعيدًا عن تدبره ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [صّ:29].

فلا ينزل على قلبهم موعظة ولا شفاء ، وهذه الحالة السيئة لابد أن يعالجها المرء هذه الأيام، لتكون طريقه ليحقق في شهر "رمضان" في شهر القرآن هذه المغفرة التي فتحها الله تعالى له، وكذلك هذه الرحمة التي يُنَزِّلها على عباده الصالحين.

فلابد حينئذ أن تتغير تلك الأحوال التي نحن فيها؛ حتى يُغَيِّر الله تعالى ما نحن فيه من أحوال البعد والجفاء والحرمان الذي قد حُرِمناه ببعدنا عن القرآن، وبعدم التدبر له والإقبال عليه، وأن يعطيه المرء قلبه، ويعطيه ذهنه وعقله وحضوره؛ ليكون سببًا لرحمته.

انظر كم فرطنا في هذه المعاني، ونحن اليوم وغدًا إذا شاء الله تعالى، وغدًا وبعد غدٍ لابد وأن يكون ذلك هَمَّ المرء الذي به تصلح أحواله، وُيْقْبِلُ به على ربه، ويشفى من أمراضه وعلله ليكون بذلك أهلًا لقربه من الله تعالى.

 

وقد كان السلف الصالحون كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم يُقْبِلون على هذا الكتاب، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص أن يختم القرآن في سبع، وهي الحال الوسط التي ينبغي ألا ينزل عنها المرء إلا لحالات أخرى تعتريه.

ما الذي يجعلك ويَحْمِلُكَ على أن تُفَرِّط في القرآن؟

لو استفدت من وقتك الضائع  الذي تُضَيِّعَهُ في الأكل والشرب والكلام، وتضيعه في دورات المياه، وتضيعه في الوقوف والاستئناس بخلق الله تعالى، وغير ذلك, لو استغللت هذا الوقت، أو لو اهتممت بأن يكون هذا الوقت لكلام الله تعالى لتغير تلك الحال، ولنزلت تلك البركة في وقتك الذي تشكو من ضعفه، ومن قلته، وأنك لا تجد وقتًا للقراءة، ولا للذكر، ولا للصلاة، وأنك لا تجد وقتًا لتحقق به أعمال معاشِك، ولا جلوسك مع أهلك، ولا غير ذلك..، كل هذه الأحوال إنما صلاحها في ذلك.

..ابدأ، وجَرِّبْ مع الله تعالى-ولا تجربة مع الله- إذ كلامه صادق لا خُلْفَ له،

 وانْكَبَّ على كلام الله تعالى، وأقبل عليه، وتأدب بأدبه، وانظر البركة التي سَتَحُلُّ عليك، وعلى بيتك وأهلك وولدك، وتَحُلُّ على صحتك ومالك ونفسك، وعلى أخلاقك وعملك وعبادتك، وكيف يَصْلُح قلبك، ويزداد خشوعك وتتحسن أحوالك، وإذا بك متأثرًا خاشعًا، إذا بك مقبلًا متوكلًا حسن الهيئة، قد نوَّر الله تعالى وجهك بما نوَّر به قلبك،ازدادت أشواقك, إلى آخر المعاني التي قد سمعنا عنها في السلف الصالحين، والتي لا زال طريقها مفتوحًا للمؤمنين اليوم.

أَمَرَهُ أن يختم القرآن في كل سبع، فكان الصحابة يُحَزِّبون كتاب الله تعالى على الأسبوع؛ ليختموا هذه الختمات، فمنهم من يزيد إلى ختمتين في الأسبوع، ومنهم من يَقِلُّ عن ذلك لِأسباب من نشر العلم، أو التدبر في آيات الله؛ لاستخراج تلك المعاني والأحكام، أو الإقبال عليها، أو لِطول التدبر فيها؛ فمنهم من كان يقرأ الآية الواحدة ليله كله يرددها ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ﴾[الجاثـية:21]، إلى آخر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن كثير من أصحابه، والسلف الصالحين أنه كان يقفون عند الآية الواحدة طُوَال ليلهم.

وهكذا لا ينبغي لك أن تكون من الزاهدين في كلامه، الزاهدين في كتابه

 

---- موانع الوصول إلى أنوار وبركات وشفاء القرآن ------

 

ومما ينبغي أن يكون عليه تالي القرآن الكريم وهو يقرأ كلام الله تعالى ليكون سبب سعادته وتدبره، وسبب فهمه، وسبب بركته، وشفائه أن يتخلَّى عن موانع الفهم، يعني:

أن يتخلَّى المرء عن الموانع التي تمنعه من أن يصل كلام الله تعالى إليه، سواء كانت هذه الموانع في الإصرار على المعصية، أو الابتلاء بالكِبر، أو بالعجب، أو بالهوى المُطاع ، فكل هذه الآفات من آفات النفس، -وأَخَصُّها هذه التي ذكرنا - تمنع القلب من أن يعي عن الله تعالى، وأن يفهم عنه، وتمنع  القلب كذلك التدبر والتفهم والحضور والخشوع، وكذلك تمنع القلب أن يُخَصِّص نفسه بهذه المعاني التي ذكر الله تعالى، التي أمرهم بها، ونهاهم عنها، وذكَّرهم، ووعدهم، وأوعدهم بها، وتمنعه عن أن تصل إليه بركات القرآن، وأن يصل إليه شفاؤه وهدايته، وأن تصل إليه رحمته، وأن يصل إليه نوره كما ذكر الله تعالى:

﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نورًا مُبِيناً ﴾[النساء:174]..

فهذا النور الذي إن أخذ المرء بحظه منه ظهر هذا النور في كلامه وسمعه وبصره وقلبه ويده كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا , وَفِي بَصَرِي نُورًا , وَفِي سَمْعِي نُورًا , وَعَنْ يَمِينِي نُورًا , وَعَنْ يَسَارِي نُورًا , وَفَوْقِي نُورًا , وَتَحْتِي نُورًا , وَأَمَامِي نُورًا , وَخَلْفِي نُورًا ,وَاجْعَلْ لِي نُورًا ))([4]) .

كل هذا النور إنما هو من كلام الله تعالى كما قال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نورًا مُبِيناً ﴾[النساء:174].

هذا النور الذي افتقده النَّاس اليوم إنما افتقدوه لهذا المعنى، أو لتلك المعاني التي ذكرنا أنهم لم يُحَصِّلوا هذه الآداب.

ينبغي  أن يتحسَّر المرء هذه الأيام وعلى مرورهذه الأيام بدون فائدة، فيمر الأسبوع في اثر الأسبوع، ولا يأخذ المرء نَفَسُه –كما يقال- حتى يمر أسبوعه، وإذا حاسب المرء نفسه فيه لم يجد نفسه قد حَصَّل شيئًا، لا من كلام الله تعالى قد ختمه كما يختم الصالحون كلام الله، ولا في الإقبال عليه، ولا في التدبر، ولا أن يترقَّى به إلى الله تعالى، ولا أن تتحسَّن به أخلاقه ومعاملاته، ولا أن تزيد به طاعاته وقرباته، ولا أن تتخفف به أثقاله وأوزاره، ولا أن يَسْتَشْفِيَ به من علله وأمراضه وأوجاعه، نراه على هذه الحالة.

لذلك: كان تقصير المؤمنين في هذا المعنى من أسوء التقصير، أن يصف الله تعالى لهم الدواء، وأن يُبَيِّن لهم طريق الشفاء، وأن يُنَزِّل عليهم نوره ورحمته، فإذا بهم يبتعدون عنها، وإذا بهم يزهدون فيها، وإذا بهم يتقللون منها، وإذا بهم لا يأخذونها بالقوة التي أمر الله تعالى أن يأخذوا بها كتابه سبحانه وتعالى، يرون أسباب نجاتهم ورحمتهم وشفائهم وائتلافهم، وأسباب  قُربهم من ربهم جل وعلا، وإذا بهم عنها معرضون، وإذا بهم معرضين عنها، غير مقبلين عليها، زاهدين فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 

 

----- كيف يسعد المؤمنون بكلام الله تعالى ويتنعمون بالإقبال عليه وتلاوته؟ ------

 

 

فهؤلاء الْمُتَخَبِّطُون الْمُتَحَيرون قد بَيَّن  الله لهم طريقهم في سلوك هذا الكتاب الكريم، وأحيا قلوبهم حتى تستطيع أن تُقْبِل على كلام الله تعالى بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ﴾[الشورى:52].

سمَّاه المولى سبحانه وتعالى روحًا؛ لتوقف الحياة الحقيقة عليه؛ لأن المرء بغيره يكون ضعيفًا، أو ميتًا كما قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾[الأنعام:122].

 

هذا حالهم مع القرآن كما أشرنا هو التَّصَدُّع والخشوع والتواضع، وتشقق البَّدن والقلب عند سماع هذه المواعظ، وتلك الزَّوَاجِر، وتلك الآيات من الوعد والوعيد، وأوامر الله تعالى ونواهيه، وقصص الأنبياء وحكاية المكذبين معهم، وكذلك البُّكاء عند تلاوة هذه الآيات، ومن ثَمَّ كان المؤمن الحافظ لكلام الله تعالى، الحامل لكتابه جل وعلا لابد وأن يكون متميزًا عن المؤمنين الذين لا يتميزون بذلك، متميزًا عن بقية النَّاس ؛ فيُعْرَفُ بليله إذا النَّاس نائمون، وبنهاره إذا النَّاس مُفْطِرون، وبِبُكائه إذا النَّاس يضحون، وبصمته إذا النَّاس يخوضون، وبخشوعه إذا النَّاس يختالون، فهو حامل لواء الإسلام كما ذكروا، فلا يلهو مع من يلهو، ولا يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، وإنما له حالٌ أخرى مع الله تعالى أَمْلَتْها هذه المعاني التي  ذكرنا

 

 

----- التحذير من التسويف في الأعمال الصالحات -----
 

ما الذي ينتظره النَّاس وقد مضت أعمارهم وفني شبابهم، وأوشكوا أن يرتحلوا، وإذا لم يرتحلوا اليوم، فَهُم راحلون غصبًا عنهم غدًا، أو بعد غد، وإن غدا لناظره قريب؟!

ماذا ينتظرون وكل يوم يقول غدًا سأفعل، بعد غدٍ سأفعل؟

مَن الذي  ضمن له الغد أو بعد غدٍ؟

والله تعالى يقول: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾[الحشر:18].

ما الذي ضمن له ذلك؟

ما أوتي القلب وضعف القلب وزادت غفلته إلا بسبب أن يقول: بعد أن أنتهي من كذا سأفعل، وبعد أن أرتب كذا سأفعل، وبعد أن ينقضي سفر الفلاني سأفعل، والشغل الفلاني سأفعل، والزواج الفلاني سأفعل، والعام..

كل ذلك من طول الأمل، ووسوسة الشيطان، وإضعاف القلب، وما فعل أحد شيئًا عندما يقول هذه الحال، وعندما تتلبس به تلك الحالة السيئة، وهي حالة المؤمنين اليوم.

وإنما المؤمن يأخذ حِذره ويبادر أجله، ويسارع إلى تنفيذ مرضاة ربه سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أنه يوشك أن يؤخذ اليوم أو غدًا، وأنه يومه يمكن أن يكون آخر الأيام، أو ليلته تكون آخر الليالي، وأنه يُرْحَلُ به وإن لم يرحل.

وها يموت الشاب.. ويموت الطفل.. ويموت غيره، وهو ينظر ولا يتأثر ولا يتحرك له ساكن.


([1])أخرجه الترمذي (3545 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .  

([2])أخرجه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو موقوفا عليه (4/ 622) وصححه ، ووافقه الذهبي بقوله : على شرط البخاري ومسلم .

([3])أخرجه أحمد في المسند (4 / 168)، وابن حبان في صحيحه (2 / 50)، والحاكم في المستدرك (1 / 85) وصححه ووافقه الذهبي .

([4])أخرجه البخاري (6316) ، ومسلم (673) من حديث ابن عباس رضي الله عنه .

 

________________________________________________________

روابط ذات صلة :

  الوظيفة السادسة : الانكباب على كلام الله تعالى وإدمان تلاوته.- الجزء الأول

 وظائف شهر شعبان

 باقة الريحان من مقالات شهر رمضان

ملف "إيقاظ أهل الإيمان لمغفرة رمضان"

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام : هذه الوظائف استخرجها محررو الموقع  -بحسب ما أدى إليه فهمهم واجتهادهم  - من كتاب فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى "حال المؤمنين في شعبان " , وقد تم التصرف فيها كثيرا لتبسيطها وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر الذي يحتويه هذا الكتاب , لذا فإن أي خطأ يتحمله المحررون وحدهم ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به , ولا تنس أخي الكريم أن الكتاب أصله تفريغ لخطب "حال المؤمنين في شعبان" وخطب "الاستعداد لشهر رمضان" , لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليه , والله الموفق

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله