فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / وظائف شهر شعبان - الوظيفة الثالثة: مجاهدة النفس على الطاعات

 

الوظيفة الثالثة: مجاهدة النفس على الطاعات

 

 

مجاهدة النفس والاستضاءة بأنوارها علاجٌ للمرء الذي قد كثرت غفلته، واستراح إلى النوم والدعة والسكون، وإعطاء النفس حظها من الراحة، فإذا تعارضت الصلاة مع النوم فَيُقَدِّمَ النوم، أو أن يتعارض الصيام مع شهواته وأكله وشُرْبِِهِ، ومَيْل نفسه إلى حطام الدنيا، فيُقدِّم شهواته، ونزواته، وحظ نفسه على ذلك , أو يتعارض أنسُه بالله وذكره له مع أنسه بالخلق الغفلة فيقدم ذلك.

 

 وشفاء ذلك المسكين إذا ما جاءته أيام البركة أن يستعنْ بالله  عز وجل  وليبدأ تائبا راجعا بقلبه إلى الله سالكا طريق المجاهدة واضعا نصب عينيه  قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾[العنكبوت: 69] ليُحصل ذلك الفوز وتلك الهداية وهذه المعية.

وبذلك تنحل قسوة قلبه وضعف بدنه ودناءة همته فيرى طريقه منيرا إلى الله تعالى موفقا بعد ذلك في رمضان , وهذا حديث المجاهدة ؛

 يقول الله عز وجل في الحديث  القدسي:

((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه،ِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه،ِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِه،ِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))([1]).

 و هذا الحديث يُبَيِّن الواقع الذي نحن فيها؛ لأنَّ المرء يسمع هذا الكلام، ولم يتحقق بشيء منه، مَنْ الذي صار ربه له سبحانه وتعالى يده ورجله وسمعه وبصره - على طريقة اعتقاد السلف -  وصار إلى الحالة التي إذا دعاه استجاب له، وإذا استعاذه أعاذه سبحانه وتعالى؟

 

وهذا المقام لا يتأتى إلا بعد أن يُتْقِن فرائضه، ثم بعد ذلك يجاهد نفسه على التزود من تلك النوافل؛ فلا يبقى في وقته، ولا جُهده ولا ماله، ولا صدقته..

كل ذلك لا يبقى فيه مجال إلا وقد جاهد فيه نفسه، وتقدَّم فيه إلى الله تعالى بكل ما يستطيع كما قال المولى سبحانه وتعالى: ((إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ))([2]).

وهذا الحديث يشير إلى تقدم السير إليه سبحانه "الشِّبر والذِّراع والباع"، لا يتكلم الحديث عن الواقع المؤلم الذي نحن فيه وهو: التأخر، والتردد، والتشكك، والنوم، والدعة، والكسل والسكون إلى ما هو فيه من الحالة السيئة، وإنما هو في تَرَقٍ مستمر إلى الله تعالى؛ ينتظر هذا الجزاء ((وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ))([3])، ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه،ِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِه،ِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)) ([4]).

لذلك قال: ((إِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا))([5]).

فهذا إذًا شهر المجاهدة التي نسمع عنها، والتي نذكرها، ونكررها، والحال كما هو، لا يستقيم على العبادة.

هذا الذي يُبَين أنك ما مشيت الشِّبر ذلك إلى الله، بل إنك لم تقم إليه أصلًا كما قال في الرواية الأخرى: (( يَا ابْنَ آدَمَ: قُمْ إِلَىَّ أَمْشِ إِلَيْكَ)) ([7]).

وكأنها الحال التي نحن فيها وهي: حال (( قُمْ إِلَىَّ أَمْشِ إِلَيْكَ)))  إذا بك لم تقم فعلًا، مَنْ الذي قام فمشى إليه؟ لو مشى سبحانه إليه لتَغيَّر حاله: ( قُمْ إِلَىَّ أَمْشِ إِلَيْكَ)))..

 

وانظُر إذا هو قد أقبل عليك سبحانه وتعالى إلى ما تكون فيه من الحفظ، وما تكون فيه من الاستقامة، وما تكون فيه من التوفيق، وما تكون فيه من السَّداد، وما تكون فيه من حُبٍّ للآخرة، وزهدٍ في الدنيا، وإقبال على الله تعالى؛ لأنه قد أقبل عليك، فإذا أقبل عليك ماذا تريد بعد ذلك؟!

ومن هنا علمتَ أنَّه لم يُقْبِل عليك الإقبال الذي تثبت به، والإقبال الذي تترقى به، والإقبال الذي يحبه سبحانه وتعالى، فتكون محبته أحب إليك من كل شيء، ويكون تقربك إليه أولى عندك من كل شيء، بل أنت لم تُقدِّمه هذا التقدم الذي لو قدمته سبحانه وتعالى وجدت عاقبة ذلك، وجدت نتيجة ذلك في حالك المتدهور، وفي أحوالك السيئة التي تُعاني منها، والتي تشتكي منها، والتي لم تحاول أن تجاهد نفسك على تغييرها (( قُمْ إِلَىَّ أَمْشِ إِلَيْكَ))).

لذلك أمرك أن تقوم,  فكأنه يخبر في هذا الحديث أن المرء لم يقم بعد، ما زال مُخْلِدًا إلى الأرض، ما زال مربوطاً بشهواته ونزواته، مُقيَّدًا بمعاصيه وذنوبه، كلما أراد أن يقوم قيَّدته معاصيه، قيدته شهواته، جذبه كل ذلك إلى الأرض.

 

ويُبين صلى الله عليه وسلم طريق المجاهدة في حديث آخر عندما قال ربيعة بن كعب للنبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قال له: ((سَلْ . فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ,  قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ , قَال:َ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))([6]) .

فبكثرة السجود يصل المرء إلي هذه الأشواق العالية من مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة , لا تتأتى من هذه الأماني التي نحن فيها، ولا من هذا التسويف الذي يقوله المرء "غدًا إن شاء الله! عندما يأتي رمضان، عندما يأتي شوال، عندما يأتي العشر، عندما انتهي من هذا الشغل، عندما أخْلُص من الجيش، عندما أنتهي من الدراسة، عندما انتهي من مشكلة الزواج، عندما أرجع من السفر"..

وكأن المرء يملك قلبه،وكأنه يملك عمره، من الذي يملك قلبه أو عُمْره؟!

 

واعلم أن مشقة العبادة على النفس درجتها عالية، وأنها كلما شَقَّت عليه زاد ثوابها، وكلما شقت عليه العبادة احتاج إلى هذه المجاهدة، وهذه المجاهدة هي  التي نفتقدها اليوم.

 

لذلك يبدو أننا في هذه الأحوال لم نتحرك شبرًا ولا ذراعًا ولا شيئًا، بل لم نقم من مكاننا الذي نحن فيه إلى الله تعالى، ومَنْ حاول أن يقوم رجع مرة أخرى فجلس واستكان واطمأن إلى ما هو فيه من الحالة السيئة التي يقاومه فيها نفسه وشيطانه وهواه، ويصعب عليه بعد ذلك أن يقوم لله تعالى.

والله -جلَّ وعلا- إذا فتح لك بابًا مِن أبواب الطاعة، فرددته ولم تعبأ به أنى يفتح ذلك مرة أخرى؟!

وهو سبب الحرمان الذي نحن فيه كذلك، أن المرء  لا يجاهد نفسه، وتراه يجاهد نفسه على الدنيا، ويحملها ويسافر بها، ويُتْعِبُها، ويشقى بها، ويسهر بها، ويتعارك لها، ويتطاحن فيها؛ ليحصل زائلًا، وربما لم يُحَصِّله، وإذا جاءت الآخرة أخذها بهذا الضعف وهذه الاستكانة، وهذا النوم وهذا الكسل، وكأنه لن يرحل إلى الله، وكأنه لن يقف لرب العالمين، وكأنه لا يُسأل ولن يُحاسب، وكأنَّه لن يتعرض لأحوال كلها مِحن وكروب لا يستطيعها أحد، فوق ما يتحمله طاقة النَّاس ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاس لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين:6].

 


 

([1])أخرجه البخاري (6502)  من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([2])أخرجه البخاري (7536) ، ومسلم (2675) من حديث أنس رضي الله عنه.

([3]) أخرجه البخاري (6502)  من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([4])أخرجه البخاري (6502)  من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([5])أخرجه البخاري (7536) ، ومسلم (2675) من حديث أنس رضي الله عنه.

 ([6])أخرجه مسلم (489) من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي .

 ([7])    أخرجه الإمام أحمد في مسنده (3/478) , قال المنذري في الترغيب (ح: 4771 ): رواه أحمد بإسناد صحيح

_________________________

روابط ذات صلة : وظائف شهر شعبان   

ملف "إيقاظ أهل الإيمان لمغفرة رمضان"

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام : هذه الوظائف استخرجها محررو الموقع  -بحسب ما أدى إليه فهمهم واجتهادهم  - من كتاب فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى "حال المؤمنين في شعبان " , وقد تم التصرف فيها كثيرا لتبسيطها وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر الذي يحتويه هذا الكتاب , لذا فإن أي خطأ يتحمله المحررون وحدهم  ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به , ولا تنس أخي الكريم أن الكتاب أصله تفريغ لخطب "حال المؤمنين في شعبان" وخطب "الاستعداد لشهر رمضان" , لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليه , والله الموفق

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله