فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / وظائف شهر شعبان - الوظيفة الثانية: تعمير الأوقات الغفلة بالطاعات

 

 

 

 

الوظيفة الثانية : تعمير أوقات الغفلة بالطاعات  والقُرُبات إلى الله تعالى 

وفي هذه الجزئية النقاط الآتية:

     كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!!

       شأن المؤمنين القرب من الله.

       فوائد إعمار أوقات الغفلة بالطاعة:

       الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى

     ومن طرق تحصيل هذه المحبة :

       القيام في نصف الليل الآخر.

       القيام حال كون النوم أحب إليك مما سواه.

       القيام ما بين المغرب والعشاء.

       دفع البلاء النازل على النفس والأُمًّة .         

       مسئولية المؤمنين في دفع البلاء النازل الآن  عن إخوانهم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها

       تحصيل الأجور المضاعفة"...

 

 

----- كيف يغفل المؤمنون عن ربهم ؟!! -----

 

نعود إلى قوله  صلى الله عليه وسلم :((يغفل عنه النَّاس)) معناه: أن المؤمنين مُطالبون بأن يُعَمِّروا أوقات الغفلة بأعمال الذكر، والقرب إلى الله تعالى وألا يكونوا مع الغافلين كما قال تعالى:  ﴿ولا تكن من الغافلين﴾ [الأعراف: 205]

لمَّا غفل عنه النَّاس لم يكن للمؤمنين أن يغفلوا عنه؛ لأنَّ المؤمنين متيقظون، حَذِرُون من ناحية..

ومن ناحية أخرى: أنَّ المؤمنين مقبلون على ربهم دومًا ؛ لأنَّهم لا ينقطعون عنه، وإن انقطعوا عن ربهم، وغفلوا عن ذكرهم ماتوا ..ماتت قلوبهم، وضلت أفئدتهم وبَعَدُوا عن طريق ربهم.

لذلك يصعب على المؤمنين أشد الصعوبة أن يغفلوا عن ربهم، وأن يتكاسلوا عنه، أو يبتعدوا عن طريقه، فكأنما خرجوا إلى الموت، لقد خرج أحدهم إذن عن طريق ربه الذي يحفظه ويرزقه ويقويه، فلابد أن يُقدم عليه وأن يرجع إليه , وليس له عنه بُدُّ سبحانه وتعالى؛ فهو ربه، وهو حبيبه، وهو الذي يُرَبَّيه، ويراعي إيمانه، وهو الذي يَمُدُّه بأسباب النجاة، وهو الذي ينتظره في الآخرة؛ ليسكنه جنته مع النبيين والصديقين والشهداء، فكيف يبعد عنه المرء؟!

أو كيف يغفل عنه؟! أو كيف ينسى ربه سبحانه وتعالى؟!

إن خرج منه كأنما خرج السمك من الماء، يخرج إلى الموت، تلك هي الغفلة عن ربهم، والابتعاد عن طريقه سبحانه وتعالى.

والمؤمنون اليوم مع الأسف لا يُحِسُّون بهذا الموت، لا يُحِسُّون بضعف الحياة كما قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[الأنعام:122].

وقد انصرفوا إلى حياتهم وأولادهم وأموالهم وشهواتهم وقدموا ذلك كله على ربهم فكان سبب لهوهم عنه وشقائهم وخسرانهم كذلك. قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].

ويعلمون أنه هو الذي يُصْلِحُ أحوالهم، وهو الذي يُدَبِّر معايشهم، وهو يُوَسِّع أرزاقهم، وهو الذي يكفيهم كلَّ ما أَهَمَّهُم في أمور دينهم ودنياهم، فكيف يلجئون إلى عدوه؟! كيف يغفلون عنه؟! كيف ينامون عن طاعته سبحانه وتعالى ؟! كيف يتكاسلون عن طريقه؟! وطريقه هو حياتهم وطريق نجاتهم، وطريقه محبتهم وقربهم، وطريقه عُلُوهم وارتفاعهم، وطريقة كل أملهم في الدنيا والآخرة.

 

 

----- شأن المؤمنين القرب من الله  تعالى والوقوف ببابه.... ------

 

قوله صلى الله عليه وسلم :  ((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))([1]).

وكأن النبي صلى الله عليه وسلم  يُبَيِّنُ للمؤمنين أنهم لا ينبغي أن يغفلوا حين يَغفُلُ النَّاس عن الله تعالى، بل لابد لهم أن يكونوا متيقظين لربهم سبحانه وتعالى، غير غافلين عنه جلَّ وعلا، مقبلين عليه حال إعراض النَّاس، ذاكرين له حال غفلة النَّاس، مهتدين بهديه حال ضلال النَّاس، وإنما هم لهم شأن، والنَّاس لهم شأن آخر.

شأنهم : القُرب من الله تعالى، والوقوف ببابه، والتضرع له. والدعاء، والذكر، والبكاء، والتذلل، والانكسار إلى ربهم في كل حين، لا يخرجون عن ذلك طرفة عين، وإذا خرجوا فذلك هو الخذلان المبين, فأشواقهم لمحبته ونعيمهم ولذتهم وشهواتهم في طاعته.

 

 

----- فوائد إعمار أوقات الغفلة بالطاعات.... -----

 

وعمارة أوقات الغفلة بأعمال الإيمان والطاعة لها فوائدها التي ينبغي أن يُحَصِّلها المؤمنون اليوم لذلك الشهر الكريم الذي يُعِدُّون أنفسهم فيه لرحمة الله .

فما هي فوائد تعمير أوقات الغفلة بالطاعة؟

-----  الفائدة الأولى: الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى.-----

 

أوَّل هذه الأمور وإن كنا نريد أن نشير إلى معانٍ مهمة فيها فقط هي:

أنَّ الله تعالى عندما يغفل عنه النَّاس، ويقوم بعض النَّاس بذكره، والإقبال عليه فيكونون محل محبته سبحانه وتعالى.

يعني: إن أوَّل شيء يحصله هؤلاء المعمِّرون لأوقات الغفلة بالذكر، والعمل، والإقبال على الله تعالى أن ينالوا محبة الله سبحانه وتعالى.

لذلك: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة يحض المؤمنين على تعمير أوقات الغفلة بالذكر ليحصلوا أعلى درجات الدين..محبة الله.

ومن ذلك: ما ذكره صلى الله عليه وسلم في نصف الليل الآخر : (( إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تعالى فيه فَكُنْ..))

يعني: وقت هدوء النَّاس، ونومهم، وشهواتهم إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يُوقِظ أهل الإيمان، وينبههم على أنهم ينبغي أن يَتَخَلَّوا عن تلك الشهوات من "النوم والدعة والراحة والأهل" ليقوموا إلى الشهوة العظمى والراحة القصوى، وهي محبة الله تعالى التي يُؤثِرُونها على الدنيا والآخرة، والمال، والأهل والولد..

فإن استطعت أن تكون ممن يذكروا الله في هذه الساعة فكنْ، أي في جوف الليل الآخر، وهو الذي يغفل عنه النَّاس المؤمنون، و غيرهم بأن يذكروا الله تعالى فيه: هو موضع محبة الله تعالى.

وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يؤخِّر العشاء الآخرة - صلاة العشاء - يعني: إلى ثلث الليل؛ يقول :كما روى في البخاري وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: ((مَا يَنْتَظِرُهَا – يَعْنِي: العشاء- أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ غَيْرُكُمْ ..))  .

وكأنه يقول :- صلوات الله وسلامه عليه- هذه الصلاة التي تصلون إنما أنتم الذين تصلونها في الدنيا كلها حال غفلة كل النَّاس عن الله تعالى، و هذه ميزة عظيمة للمؤمنين، أن يذكروا الله تعالى عند غفلة النَّاس عنه، وأن يُقْبِلوا عليه حال إعراض النَّاس عنه سبحانه وتعالى ..

ولك أن تتخيل أيها المؤمن! أنَّ ذلك محل رحمة الله تعالى، ومحل محبة الله تعالى ,

يقولصلى الله عليه وسلم : ((ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمْ اللَّهُ … وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ أَحَدُهُمْ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي ..))([2])

 ((حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدلوا به)) لا يعادله شيء هذا النوم فناموا.

((قام إليَّ أحدهم)): الذي يضحك له ربه سبحانه وتعالى، الذي هو في محل محبة الله له سبحانه وتعالى.

((قام إليَّ)): قام إليَّ حال تعبه، وحال مشقته، وحال كون النوم أحب إليه مما سواه، قام إليه، لا يُحِسُّ بهذا التعب، ولا يحس بهذه المشقة، ولا يحس بأن النوم هو الأحب إليه، بل يحس بأنَّ قيامه إلى ربه، وتلاوته لآياته، وتَمَلُّقَه ودعائه، والطلب منه هو راحته وسروره ,فأنساه تعبه ومشقته؛  لأنه أحس في ذلك بنعيمه، أحس في ذلك بطمأنينته، وإقباله على ربه سبحانه وتعالى، فكانت أعلى وأجلَّ وأعظم من كل هذه السعادات التي يلقاها في غير ذلك، فكانت سعادته العظمى، وقُرَّةُ عينيه التي لا تنقضي، ونعيمه الذي لا يفنى أن يقبل على ربه، وأن يتلوا آياته، وأن يتملقه سبحانه وتعالى، إلى آخر ذلك مما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:

((وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَهُزِمُوا وَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ )) 

يعني: فروا من أمام العدو ، فقابلهم رجل بصدره فقاتلهم حتى قُتِلَ.

فذلك يضحك الله له،فهذا يحبه ربه كأنه لما فرَّ النَّاس عن الله تعالى، وفروا عن دين الله تعالى، ونُصْرَتِهِ إذا به هو وحده في غفلتهم، وفرارهم، وبُعْدِهِم، وإدبارهم يُقْبِل بصدره؛ يَوَدُّ ما عند الله تعالى من الشهادة، ومن القرب، يود ما عند الله تعالى من الأجر في الدفع عن دينه، والذَّبِّ عن إيمانه، والقيام بِنُصْرَةِ هذا الدين.

والثالث: ((فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ ))  ,. يعني: أعطاه بينه وبينه، أعطاه مما أعطاه الله تعالى، أعطاه مما رزقه الله تعالى، أنفق في السِّر من هذا الباب الذي يحبه الله تعالى، فكان ذلك الشَّخص ممن يضحك الله تعالى له، ممن يحبهم الله تبارك وتعالى.

 فرأيت هذا الحديث يُصَوِّر هذه المحبة، وهذا الضحك من الله تعالى لهؤلاء الذين تركوا رَغْد، عيشهم، ودَعَتَهُم، وسكونهم، وراحتهم، وزوجاتهم، وغِطائهم ونومهم، وأنفقوا مالهم ، وضحوا بأنفسهم فَقُتِلُوا، قاتلوا وقُتِلُوا في سبيل الله، وهكذا..

وحسبك بقوم يحبهم ويضحك لهم حسبك بهم في علو درجتهم وحسن منزلتهم وقل ما شئت فلا تبلغ العبارة وصف حالهم.

فلعلك قد أخذت هذا المعنى من تعمير أوقات الغفلة بذكر الله تعالى وطاعته ليكون رصيدك في "شعبان" أن تكون أنت المُقْبِل حال فرار النَّاس، والمُتَصَدِّق حال بُخْلِهِم وإحجامهم وحرصهم، أن تكون القائم حال نومهم وغفلتهم، والذَّاكِر لله تعالى، الداعي المُتَمَلِق له حال بُعْدِهِم وحال نومهم.

ذلك كله يكون سَبَبَ محبة الله تعالى لعبده، فإن الله تعالى يحب لهم ذلك.

 

ومثل آخر: كان المؤمنون في عهدهم الأول يقومون ما بين "المغرب" و"العشاء" صلاةً لله تعالى؛ لقولهم: إن هذه ساعة يغفل النَّاس فيها عن الله تعالى.

فيقومون فيها لربهم سبحانه وتعالى، ساعة غفلة يغفل النَّاس عنها لا ينبغي للمؤمنين المتقين أن يغفلوا كما غفل غيرهم، وأن يناموا كما نام غيرهم، أو أن يَلْهُوا كما لهى غيرهم، أو يبتعدوا كما ابتعد غيرهم، أو يَفِرُّوا كما فرَّ غيرهم.

وعادة الناس اليوم هي الفِرَارُ من الطاعة والعمل الصالح والمَلَل منها، والضيق بها، يَوَدُّون شيئًا سريعًا، شيئًا خفيفًا، شيئًا لا يكون له أثره الجميل في قلوب المؤمنين، ولا في أعمالهم وأقوالهم، كأن أثقل شيء عليهم هو إقبالهم على ربهم، وهو محبتهم لربهم، وهو بذلهم لربهم، فضلا عن تضحيتهم لربهم، إن كان شيءٌ لغير الله تعالى وَجَدْتَهُم يسارعون ويعطون ويبذلون، ولا يُهِمُّهُم وقت، ولا يهمهم مال، ولا جُهْد، إن كان لله تعالى وجدتَ العِلَلَ والأعذار، والبعد عن الله تعالى.

وكان تعمير النبيِّ له صلى الله عليه وسلم في حال الغفلة لهذا السبب الأول وهو:

المحبة من الله تعالى، وأن يضحك الله -تبارك وتعالى- لهم، وأن يُجازِيَهُم، وأن يكافئهم أحسن الجزاء، وأن يُعْظِّمَ مثوبتهم، وأنْ يجزلَ لهم الثوابَ سبحانه وتعالى.

 

-----  الفائدة الثانية: دفع البلاء النازل على النفس والأُمَّة -----

 

شيء آخر ينبغي النظر فيه وهو: مسئولية المؤمنين اليوم؛

 فإن تعمير أوقات الغفلة مما يدفع الله تعالى به السوء عن النفس وعن الأمة، والذي يجب أن يكون في اهتمام المؤمنين اليوم، كيف يدفعون عن أنفسهم ؟ وكيف يدفعون عن إخوانهم في أقطار الإسلام ما نزل بهم؟ وما أحاط بهم، وما حَلَّ عليهم، أن يدفعوا ذلك كله، وقد فتح الله تعالى لهم هذا الشهر الكريم ليستشعروا تلك المسئولية؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يدفع بالمؤمنين القائمين، الراكعين، الساجدين، الذاكرين، الصائمين، المتصدقين، المتكافلين، المتعاونين يدفع الله -تبارك وتعالى- بهم عن أنفسهم، وعن غيرهم البلاء النَّازل، إذا ما نزل البلاء فوجد قومًا يُصَلون، وجد قومًا يصومون، وجد قومًا يتهجدون، وجد قومًا يذكرون رُفِعَ عنهم البلاء، دُفِعَ بهم البلاء عن غيرهم فهم حائط الصد الأول الآن, ترى الهزيمة تأتي من قِبَلهم؟

 

لذلك يقول الله تعالى:﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]، يعني: لولا أن يدفع الله -تبارك وتعالى- بالمؤمنين عن غيرهم لنزل بهم البلاء، وقد علمتم أنَّ الله -تبارك وتعالى- يحفظ بالرجل الصالح أهله وولده والنَّاس مِن حوله.

نزلت الملائكة لقرية ليخسفوا بها، فوجدوا فيها رجلًا قائمًا يصلي، فرفعوا عنهم البلاء وأصل هذا القَصَص في كلام الله تعالى، يقول الله سبحانه في حفظ مال الغلامين ﴿وكان أبوهما صالحا﴾[الكهف: 82]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم

((أَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ))([3])

يعني: أصحاب النبيصلى الله عليه وسلم الأمان للأمة، ومَن بَعدَهُم كذلك كلما كان فيهم صالحٌ من الصالحين إذا بالله تعالى يجعله أمنة لهم، وحفظًا لهم بما يُقدمُ لله تعالى من العمل الصالح، بما يَرفع إلى الله -تبارك وتعالى- من الدعاء، بما يُرفع له مِن الذِّكر والقيام، بما يرفع له من الصيام، وبما يُرفع له من النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم النافع والعمل الصالح، والسعي في مصالح المسلمين، والقيام عليها.. والدعوة إلى اله والجهاد في سبيله.

كل ذلك يرتفع إلى الله تعالى، فإذا به يدفع البلاء عن المؤمنين. ﴿ما يفعل الله بعذابكم إنم شكرتم وآمنتم﴾[النساء: 147]

 

فها قد فتح الله -تبارك وتعالى- شهر "شعبان" ليتحمل المؤمنون مسئولياتهم، وليعلموا حجم هذه المسئولية وضخامتها وأنهم يرون ما نزل بغيرهم من البلاء الذي قد تحققت أسبابه فينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولولا أنه ثمة إيمانٌ موجود ، أو لوجود بعض أهلِ الإيمان يرَحِمَ الله تعالى بهم البلاد والعباد لَنَزَلَ بهم ما ساءهم، وَلَنَزَلَ بهم ما نزل بغيرهم.

 

لا بُدَّ إذن  أن يسارع المؤمنون  التحقق بتلك الأسباب، وأن ينتهزوا هذه الأيام التي لا مرد لها مرة أخرى، ولا رجوع ؛ ﴿وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين﴾[المنافقون: 10] يسأل الرجوع وقد حيل بينه وبين ذلك.

 فقد فتح الله لك بابًا من أبواب الطاعة فاسلكه لتتقرب إليه به ، واعلم أنه تكفل لك سبحانه وتعالى بالعاقبة، طالما فتح لك هذه القربات، ستأتي هذه العواقب كلها حميدة، ستأتي حميدة كلها؛ لأن الله -تبارك وتعالى- كما أشار: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ﴾[الطلاق:2].

ذلك المخرج لابد أن يحدث للمتقين المؤمنين وهذا مما يخفف على المرء، ويُعَلِّمَه التوكل على الله تعالى، وأن يُسارِع إلى الطاعة والمغفرة، وأن يتسابق فيها، ولا يُهِمَّه ما يمكن أن يترتب على ذلك ؛ لأنه يعلم أنه لن يترتب إلا الخير، لن يترتب إلا العاقبة الحسنة له، لن يترتب على ذلك من الله -جل وعلا- الذي هيأه لذلك إلا كل توفيق وسداد، لا يخاف؛ لأن الأمور بيد الله، وأنه ﴿مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾[الطلاق: 3].

 

 

-----  الفائدة الثالثة :تحصيل الأجور المضاعفة : ------ 

 

((ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ))([4])

ونشير إلى معنًى آخر من المعاني المهمة وهو:

أن غفلة النَّاس تجعل هذه الطاعات شاقة على النفس؛ لأنه إذا ما كثر الطائعون لله تعالى فإنَّ النَّاس تألف الطاعة في "رمضان" كلهم -أي: النَّاس- صائمون، وكلهم متعاونون على هذا الأمر من أوامر الله تعالى، وكلهم لوجود الطائعين يتأسَّون بهم، ويسيرون ورائهم، ولا يُحسِّون بمشقة الصيام، ولا بمشقة القيام، لكثرة الطائعين الصائمين القائمين، أما إذا جاءت أوقات الغفلة، وتفرَّد المرء بالطاعة كانت شاقة على نفسه، كانت صعبة عليه؛ لأنه لا يجد مَن يتأسى به.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المتعبدين في أيام المحنة، أو في أيام الفتنة، أو في أيام عدم وجود الطاعة، والعبادة من النَّاس لله تعالى,  قال:

(( لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ !! قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟!قَال:َ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ ))  .

فأجر هؤلاء الذين يتفردون بطاعة الله تعالى في هذه الأيام التي تكثر فيها الغفلة، وتزداد فيها الفتنة أجرهم يزداد على حسب مشقة هذه الأعمال على نفوسهم، وعلى حسب ثِقَل هذه الطاعات على قلوبهم وأبدانهم، وعلى حسب ما يتحملون من تلك المشقة، ومن هذه الصعوبة، ويبذلون حتى يحققوا أقصى عبادة يمكن أن يحققوها  (( أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ )).

يعني: الذين يعمل العمل الصغير في مثل هذه الأيام -من أيام الغفلة- التي لا يساعده فيها أحد يُحَصِّل أجر خمسين من أعمال الصحابة..

ليس ذلك معناه أنَّ أحدًا سيعمل كأعمال الصحابة، لا، وإنما العمل الواحد يوازن ذلك، أما أن يُحَصِّل مجموع عمل الصحابي.. فلا يحصل أحد بعدهم لصحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

لذلك كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لأنهم لا يجدون على الخير أعوانا، أنتم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون على الخير أعوانا))  .

لذلك قال: ((فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ,  قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ ؟ قَالَ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس))([5]) .

فإذا كثر الفساد، وَعَمَّ البلاء، هؤلاء الغرباء طوبى لهم الذين يحسنون، والذين يصلحون إذا ما كثر الفساد، وعَمَّ البلاء والفتنة.

فتفطن المؤمنون إلى أنه كلما تعبدوا لربهم في أوقات الغفلة، وازدادت عبادتهم ، وازداد تمسكهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ووجدوا في ذلك مشقة على نفوسهم، وصعوبة على أبدانهم، وكذلك وجدوا هذا الكلال الذي يمكن أن يتحملوه في سبيل قربهم مِن ربهم، وعبادتهم لله تعالى، فإنَّ أجورهم تزداد عند الله تعالى، وإن درجتهم ترتفع عند الله تعالى، وإن الله -جل وعلا- بكرمه وَمَنِّهِ يُجْزِلُ لهم المثوبة سبحانه وتعالى، ويَزيد لهم في الأجر الذي يفرحون به عندما يلقون الله تعالى،هذا المعنى يُخَفِّف على المرء الطاعات الْمُستَثقَلة هذه الأيام، وهذه القُرُبات الشَّاقة على النفس في مثل تلك الأحوال.

لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))([6]) .

فإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فازوا بهجرتهم إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ إيمانًا بالله تعالى وتسليمًا له، وتركًا للأهل والمال والوطن، وتركًا للولد والنساء، وتركًا للديار فإنَّ الله تعالى قد فتح للمؤمنين كذلك في أيام الفتنة هذا الباب الذي يشابهون به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إليه.

فالعبادة في الفتنة كالهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن النَّاس في هذه العهود قد عادت إلى أهوائها، وعادت إلى اتّباع شهواتها، ونزواتها كعادة أهل الجاهلية، فمن خرج منهم إلى عبادة الله تعالى، والاستقامة على أمره، والثبات على دعوته سبحانه وتعالى كان حاله كحال من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وترك الجاهلية وأهلها.

وهذا يحمل المؤمنين على أن يستمسكوا بالله تعالى، إلى أن يعتصموا بالله تعالى، وبِسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يَزيدوا بذلهم، فكلما زاد ذلك في مثل هذه الأيام كان الأجر الحسن هو الذي ينتظرهم عند الله تعالى وهو أجر الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك شرفًا وفخرًا أن يُحَصِّل المرء ذلك، كأنَّه في أيام الفتنة.

 

 

 


 

([1]) [حسن] تقدم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه .

([2])أخرجه الترمذي (2568) ، والنسائي (1615) ، وأحمد في المسند (5 / 153) من حديث أبي ذر رضي الله عنه .

([3])أخرجه مسلم (2531) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه .

([4]) تقدم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه .

([5])أخرجه  أحمد (4 / 73).

([6]) أخرجه مسلم (2948) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه .

________________________________________________________

روابط ذات صلة : وظائف شهر شعبان   

ملف "إيقاظ أهل الإيمان لمغفرة رمضان"

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام : هذه الوظائف استخرجها محررو الموقع  -بحسب ما أدى إليه فهمهم واجتهادهم  - من كتاب فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى "حال المؤمنين في شعبان " , وقد تم التصرف فيها كثيرا لتبسيطها وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر الذي يحتويه هذا الكتاب , لذا فإن أي خطأ يتحمله المحررون وحدهم  ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به , ولا تنس أخي الكريم أن الكتاب أصله تفريغ لخطب "حال المؤمنين في شعبان" وخطب "الاستعداد لشهر رمضان" , لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليه , والله الموفق

 

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله