فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / ركن المقالات  / أيام العشر من ذي الحجة   

 

منقول (

 

 

أيام العشر من ذي الحجة: فضلها وحال السلف الصالح فيها

 فضل أيام العشر من ذي الحجة وأهميتها.

      أولا: العشر من ذي الحجة  أفضل الأيام على الإطلاق.

     ثانيا: العمل الصالح فيها أفضل من كل الأعمال حتى الجهاد.

     ثالثا: شرع الله تعالى العيد بعدها حتى يعيدوا مغفورا لهم.

     رابعا: العمل الصالح فيها استعدادٌ وتهيئة للمرء لأعمال الحج ويوم عرفة.

حال السلف الصالح في أيام العشر.

      1- كانوا يجتهدون فيها  اجتهادا لا يكاد يقدر عليه.

      2- الصيام والقيام والصدقة وصلة الأرحام والسير في مصالح المسلمين.

      3- الإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد.

الموعظة مما سبق.

 

يوم  عرفة.

       صيام عرفة.

      حفظ الجوارح في يوم عرفة.

      عتق رقبة لله تعالى , أو ما يقاربها من الأجر.

      تحقيق التوحيد والإخلاص في يوم عرفة.

  

   ونعود إلى أيام البر، وهي الأيام التي قد فتحها الله تعالى للمؤمنين بعد رمضان، حيث وصلهم الله تبارك وتعالى بعد أيام رمضان أيام المغفرة، أيام العتق من النار، أيام الرحمة، وصلهم بأيامٍ أُخَرْ -سبحانه وتعالى- فتح لهم بها أبوابًا جديدة من أبواب العفو، ومن أبواب المغفرة، ومن أبواب العتق من النار كذلك، بل فتح لهم أبوابًا هي أعظم من هذه الأبواب التي كانت، يعني: كانت رحمة الله -تبارك وتعالى- بهم أعظم مما كانت يعني زادت رحمة الله تعالى عليهم، وزادت عناية الله تعالى بهم، يعني: لَمَّا أكملوا سعيهم في رمضان وقاموا ليلهم، وصاموا نهارهم، وتصدقوا من فضل أموالهم، واستخدموا أنفسهم في طاعة الله تعالى، فوفق منهم من وفق لليلة القدر، ووفق من وفق لمغفرة الله تعالى، وللعتق من النار، إذا بالله تعالى يُكْرمهم بأعظم من ذلك، وأجلَّ من ذلك هذه الأيام هي أيام العشر  من ذي الحجة.

 

 

----   فضل أيام العشر من ذي الحجة وأهميتها------

 

             -----أولا: العشر من ذي الحجة  أفضل الأيام على الإطلاق ------

قال جمهور المحققين من العلماء : العشر من ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر من رمضان في مجموعها إلا أن رمضان يمتاز بليلةٍ واحدة هي ليلةُ القدر، فذو الحجة هذا أفضل الشهور عند الله تعالى؛ لأنَّه من الأشهر الحرم، وهو أفضل الحُُرُم؛ وأفضل الحُرُم ذو الحجة وأفضل ذو الحجة هو العشر الأوائل، وهذه العشر كما ذكر المحققون من العلماء أفضل من العشر الأواخر من رمضان، مجموع هذه العشر من العمل الصالح أفضل من مجموع العشر الأواخر من رمضان إلا أن رمضان -كما ذكرنا- يمتاز بليلةِ القدر.

    وانظر كيف عَظَّمَ المؤمنون بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العشر عَظَّمُوا هذه الأيام لذلك لما علموا ذلك إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ » -يعني العشر من ذي الحجة -  «  قَالُوا:  يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ(1)».

 

          ---- ثانيا: العمل الصالح فيها أفضل من كل الأعمال حتى الجهاد ------

 

   وانظر إليك أيها المسكين -السامع والمتكلم- قد فُتِحَ لك أيامٌ تعوِّضُ فيها الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- بل هي أفضل من عدة الجهاد  في سبيل الله، لذلك لَمَّا سئل السائلُ هذا السؤال: أَىُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ ؟  قَالَ: « مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ .(3)»     هذا أفضل الجهاد عند الله تعالى، وهو أعظم الناس درجةً عند الله من عُقِرَ جواده وأهريق دمه، يعني: عقر فرسه ووقع عنه، وقتل في سبيل الله، هذا أعظم الجهاد، لذلك لَمَّا سأله السائل عن أفضل الأعمال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إيمانٌ بالله ورسوله، قال: ثم أيْ؟ قال: جهادٌ في سبيل الله، قال: ثم أيْ؟ قال: الحجُّ(4)» يعني: الحجُّ يأتي بعد الجهاد, ومع أنَّ هذه الأيام هي أيام الحج، والجهاد أفضل فيها إلا أنَّ الحجَّ والعمل الصالح فيها أفضل من الجهاد.

 

   لذلك لَمَّا سئل السائلُ النبي صلى الله عليه وسلم  فَقَالَ:  « دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ؟  قَالَ: لَا أَجِدُهُ , قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟ قَالَ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟!» أي من يستطيع أن يصلي لا يفتر وأن يصوم لا يفطر حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، تلك الأيام إذن في عدتها هذه الأيام عشر أيام كأنك خرجت جهادًا بل أعظم من الجهاد في سبيل الله.  لذلك كانت هذه الأيام تُعوِّضُ للمرء ما فاته من رمضان فهي أفضل من العشر، تُعوِّضُ له بعد ذلك أيام البر،

 

    فهذا الأمر الأول أن يعلموا قدر هذه الأيام وعِظَمها، وأنها أفضل أيام الدنيا، يعني: ليس ثَمَّ أيامٌ أُخر أفضل من هذه الأيام في دنيا المؤمنين المتقين، وذلك يستدعي منهم أن يُزِيْحُوا عن أنفسهم الغفلة، والعوائق التي تعيقهم عن أنْ يستغلوا هذه الأيام وينتهزوا هذه الفرصة حتى  يستغلوا هذه الأيام في تحقيق ما لم يحققوه في رمضان، فأيامها ولياليها أفضل من الأيام العشر في رمضان،  فقد خرجوا من رمضان وكثيرٌ منهم إلا من رحم الله -جلَّ وعلا- وهو يقول: إنْ شاء الله في العام القادم سيحاول وسيجتهد من أول يوم، وسيقدم العمل الصالح، وسيرتب نفسه على الاعتكاف والقيام والذكر، وطول القيام وكأنَّه قد حَزُنَ حزنًا شديدًا على أنْ فاتته تلك الليالي الجميلة، وتلك العبادات الحسنة التي وفرها الله تعالى لهم في تلك الأيام، فإذا بهذه الأيام هي أفضل وأجلّ وأعلى وأعظم درجةً وفضلًا وعملًا وعلمًا وعبادةً من تلك الأيام التي فتحها لهم -سبحانه وتعالى- ووهبهم إياها فإذا بهم يستعدون لتلك الأيام بل ويجتهدون فيها أعظم من اجتهادهم السابق.

    

 فإذا لم يُحَصِّلوا في رمضان المغفرة فها قد فتحت أيامٌ أعظم من أيام رمضان لتحقيق هذه المغفرة، ولتحقيق العتق من النار، فماذا هم فاعلون؟ التكاسل والتواني والتأخر كما حدث في رمضان، وكذلك استثقال الطاعة، واستثقال الإقبال على الله تبارك وتعالى، والتمني والتسويف لِمَا بعد هذه الأيام!!! وكأنَّ هذه الأيام تأتي كذلك اعتذارًا لهؤلاء المعتذرين، يعني: ألاَّ يكون لهم عذر بعد ذلك،

 

 إذا لم يغفر لهم في رمضان؛ فمتى يغفر لهم؟!

 

 وإذا لم يغفر لهم في هذه الأيام التي هي أفضل من رمضان؛ فمتى يغفر لهم؟!

 

   إذن هذا الأمر يستدعي من المؤمنين أن يتركوا تواكلهم وتكاسلهم وتَوانِيَهُم وأن يبذلوا جهدًا يكون سببًا لنظر الله تعالى إليهم، وسببًا لرحمة الله تعالى بهم، وأنهم مهما بذلوا من جهد ووقت ومال وفراغ لله تعالى فإنَّ الله -جلَّ وعلا- لا يضيعه عليهم، بل يكافئهم به أعظم مكافئة ويثيبهم عليه أعظم المثوبة.

 

      ----- ثالثا: شرع الله تعالى العيد بعدها حتى يعيدوا مغفورا لهم  -----

 

  وهذا الأمر المهم الذي ينظر فيه المؤمنون أنَّ الله تبارك وتعالى شرع لهم عيدين في العام ليجتمع الناس فيهما على الشكر، والتكبير، وذكر الله تعالى، وأن يقدموا هدايهم وقرابينهم، وما ذلك كله لم يشرع - ذلك الشكر وتقديم القرابين والهدايا - إلا لِأَنَّ العيد إنما جاء تحقيقًا للمغفرة، يعني: بعد أن غفر لهم، وعتقوا من النار كان لهم أن يُعَيدوا وأن يصبحوا مسرورين فرحين، فإنَّ فرح المؤمنين إنَّما هو بالله تعالى إذ يغفر لهم، وإذ يعتقهم من النار، وإذ يرحمهم -سبحانه وتعالى- فإذا لم يُغْفَر لهم، ولم يُعْتَقُوا من النار وكانوا في أحوالهم كسيئ أحوالهم التي كانت فكيف يعَيدون؟ قال تعالى:  ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].

 

 

 

   إذن هذا الأمر الثالث الذي يفهمه المرء أنَّه إنما ينتظر العيد بمغفرة الله تعالى، أمَّا الذي لم يغفر له، ولم يرى أنَّ الله تعالى قد أعتقه من النار يعني: أنَّه لم يقدم من الأسباب الصالحة والعمل المقرِّبِ إلى الله تعالى ما يكون سببًا للمغفرة والعتق من النار، فكأنَّه لم يُعَيد، وليس له كذلك أن يُعَيد، كيف يُعَيد وهو في ما هو فيه من التقصير والتفريط والذنوب والمعاصي والغفلة وترك الاستعداد للقاء الله تعالى، ونسيان الآخرة ونسيان الموت كل ذلك يُقَّسِي القلب، ويضعف البدن عن السير إلى الله تعالى، أنَّى إذن يكون له هذا المعنى.

   ومن ثَمَ شرع الله تعالى كما ترون؛ وفتح هذه الأيام ليستدرك ما فاته،

 

----- رابعا: العمل الصالح فيها استعدادٌ وتهيئة للمرء لأعمال الحج ويوم عرفة ------

 

 والأمرالرابع  أنها من الأيام التي يعمل فيها المرء الأعمال الصالحة وأعمال البر ليكون ذلك سببًا في أن يُهيِّئَه الله تبارك وتعالى لأعمال الحجّ، لِأنْ يقبله الله تبارك وتعالى فيوفقه لأعظم الأعمال فيها، وأعظم أعمال تلك الأيام هو الحج فإنَّه إن وقف بعرفات كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الربَّ يقول: أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، يباهي بهم ملائكته عشية عرفة يقول: يا ملائكتي انظروا هؤلاء قد جاؤني شُعْثًا غبرًا من كل فجٍ عميق أُشهدكم أني قد غفرت لهم.

  فيفيضون من عرفات إلى المزدلفة مغفورًا لهم، غَفَرَ لهم المولى -سبحانه وتعالى- ذنوبهم، فيصبحون مُعَيدين يوم العيد قد غُفِرَ لهم هؤلاء.

 

 وكذلك فضل الله الواسع يشمل هؤلاء المؤمنين الذين قد مُنِعُوا من أن يقفوا بعرفات أو مُنِعُوا أن يذهبوا لأداء تلك المشاعر، فإن الله تعالى قد فتح لهم يوم عرفات هنالك كذلك في أمصارهم وفي قراهم وفي بلدانهم؛  يستطيعون إنْ صاموا يوم عرفات، وحفظوا أنفسهم فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يغفر لهم كذلك ذنوب السنة الماضية، وذنوب السنة المقبلة، فيصبح جميع المسلمين وهم مُعَيدون مسرورون بما فتح الله تعالى من رحمته وفضله، وبما أفاء عليهم من عفوه ومغفرته -سبحانه وتعالى-فانظر إلى هذا المعنى إذن وهو:

أنَّه لما فتح الله عز وجلَّ عرفات لهذا المعنى هيأ تلك الأيام قبل عرفات ليستعد أولئك المؤمنون إمَّا أن تكون جائزتهم أن يذهبوا إلى بيت الله تعالى ضيوفًا على الله -جلّ وعلا- نزولًا عليه، ينتظرون حسن ضيافته؛ -الكريم سبحانه وتعالى- فيرجعون من ضيافتهم كيوم ولدتهم أمهاتهم لا ذنب لهم، وهؤلاء الباقون الذي لم يذهبوا ولم يُكتب لهم، أومُنِعوا وحُرِمُوا قد فتح لهم تلك الأيام العشر حتى يتهيؤا فيها ليوم عرفة فتغفر ذنوبهم، ما كان من سنتهم الماضية، وما كان من في سنتهم المستقبلة؛ حينئذ يحق لهم أن يُعَيدوا.

 

 

---- حال السلف الصالح في أيام العشر ------ 

          ----- 1- كانوا يجتهدون فيها  اجتهادا لا يكاد يقدر عليه -----

 

فهلّا كان من أهل الإيمان الاستعداد في هذه الأيام التي فتحها الله تعالى لهم، ليعظِموها وليرفعوا درجتها، كان السلف الصالحون في مثل هذه الأيام يجتهدون اجتهادًا حتى لا يكاد يقدر عليه ، يعني: يجتهدون اجتهادًا عظيمًا لا يستطيع أحدٌ أن يلحق بهم بهذا الإجتهاد في تلك الأيام،

 وكانوا يعدون عمل اليوم فيه بأعمال أيامٍ كثيرة كما ذُكِر عن بعضهم، يعني: هذه الأيام بآلاف الأيام من الأعمال الصالحة؛ لأنها كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم توازي أن يخرج المجاهد في سبيل الله عشرة أيام وتدخل أنت أيها المسكين إلى مصلَّاك فتصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر أجر المجاهد كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم:  كأجر القائم الراكع القانت الساجد حتى يرجع، القانت القائم الراكع الساجد الخاشع كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري وغيره.

 

    إذن قد فتحت هذه الأيام لهذا المعنى، عَظَّمها السلف أعظم تعظيم -كما أشرنا- حتى لا يكادون يقدر عليهم لا يكاد للمرء يقدر على اجتهادهم يعني: أنهم كانوا يواصلون ليلهم نهارهم، كان سعيد بن جبير راوي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما- يعني راوي حديث «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» - كان  يجتهد اجتهادًا ما يُقدر عليه، وكان يعجبه ألا تُطفأ السُرُجُ بالليل سواءً في المساجد أو في البيوت بالليل هذه الليالي يعني: كان يعجبه أن يقوم الناس هذه الليالي من أوَّلِهَا إلى آخرها.

 

     

        ----- 2- الصيام والقيام والصدقة وصلة الأرحام والسير في مصالح المسلمين -----

 

ومن ثم لما قال النبي صلى الله عليه وسلممَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» كان كل عملٍِ فيها أفضل مما يعمله المرء في غيرها، فإن صاموا فيها كان الصيام فيها أفضل من الصيام في غيرها، وإن سبح وهَلَّلََ كان أفضل وأعلى من غيرها، إن قام كان القيام أجلَّ وأعظم من غيرها، إن تصدق كانت الصدقة كذلك أعلى ثوابًا وأعظم مثوبةً من غيرها، إنْ وصل أقاربه، إن برَّ والديه، إن قام بعملٍ صالح لإخوانه، إن سار في مصلحة المسلمين كل ذلك من الأعمال الصالحة أعظم مئات المرات من الأعمال في مثل تلك الأيام في عشرٍ مثلها من أيام الدنيا.

  لذلك كانوا يؤكدون تأكيدًا شديدًا على صيامها وقيامها كما ذكر كثيرٌ بل أكثر العلماء على استحباب الصيام فيها، والقيام فيها،

 

 

      ------ 3- الإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد -----

 

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: فأكثروا فيهنَّ من التسبيح والتهليل والتحميد، أن يكثروا فيها من ذلك،

 

 

وكان ابن عمر وأبو هريرة -رضي الله عنهما- يخرجان في هذه في هذه الأيام -في أيام العشر- إلى السوق يُكبران لا يخرجهما إلا التكبير يعني: مما ورد في فضل هذه الأيام مما نسيه المؤمنون كذلك أنهم كانوا يخرجون فيها يكبرون الله تبارك وتعالى، يُذكرون الغافلين بما فيها من فضل ويرفعون فيها ذكر الله تعالى ليعُمَّ العمل الصالح جميع المؤمنين، ولترتفع الغفلة عنهم - هذه الغفلة قد أصابتنا -كما ترون- فلا تعظيم لهذه الأيام، ولا اجلال لها، ولا رفعًا لشأنها ولا شيئًا من ذلك، يُحِسُّه المؤمنون بقلوبهم فضلًا عن القيام له بأعمالهم فضلًا كذلك عن الإهتمام لها وتفريغ الوقت والجهد لتحصيل فضلها وثوابها وكأنها كبقية أيام الدنيا.

 

 

---- الموعظة مما سبق -----     

فإذا علم المؤمنون –كما أشرنا- هذا المعانى وهو أنَّ هذه الأيام هي أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان كانوا أشد اجتهادًا لها، رأينا إخواننا   في العشر  الأواخر يحاولون أن يعتكفوا وأن يصلوا وأن يقوموا وأن يتحروا ليلة القدر، وأن يقدموا صدقاتهم، وأن يخرجوا زكاة أموالهم وغير ذلك من بقية الأعمال الصالحة، جاءت هذه العشر وهي أفضل منها إذا بهم نائمون، وإذا بهم غافلون، وإذا بهم متكاسلون لا يُحسون بعظمتها ولا بخطرها، ولا بإرتفاع شأنها ولا علوِّ منزلتها ولا كثرة الثواب والخير الجزيل فيها، فمتى يحسون إذن بهذا؟

 

    ينبغي أن يتفكر الناس في موقفهم وكأنهم أمِنُوا في رمضان أن قد غفر لهم! من الذي قد أمن في رمضان أن الله غفر له وأعتقه من النار؟! فإذا بالله تعالى  به يقطع عنك العذر مرةً أخرى ويفتح لك أيامًا هي أفضل فيراك على هذا التكاسل، وعلى هذا التقصير، وعلى تلك الغفلة التي نحن فيها.

 

  علم المؤمنون كيف وَصَلهمُ الله تعالى بأيام هي أعظم من تلك الأيام، وكيف هيأهم ليحققوا عفوه بعد ذلك ومغفرته والعتق من النار -سبحانه وتعالى-، وليحققوا بذلك ما يرجون من أن يُعَيدوا، وأن يُسَّروا بعيدهم، وأن سرورهم وفرحهم لا يكون إلا بالله تعالى وبما ينزل عليهم من فضل، وبما يمنحهم من عفو، وبما يجود عليهم بمغفرته -سبحانه وتعالى- فتهيؤا لذلك وفهموا عن الله تعالى مقصوده في تلك الأيام ليستدركوا ما فاتهم، وليقتربوا بذلك من ربهم -سبحانه وتعالى- وليوحدوا ربهم، وليتعلقوا به أكثر من ذي قبل ليكونوا أحبَّ إلى الله وأقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- فإذا بهم قد تكاسلوا وتراجعوا وغفلوا.

    وهذا الأمر إنَّما يجب أن يكون في مَحِلِّ حُزْنِ المؤمنين إذا لم يتحققوا بما يكون سبب فرحهم وسرورهم، تراهم بما يُسَّروا، وبما يفرحوا على العكس ينبغي أن يحزنوا لغفلتهم وبعدهم، وتقصيرهم، وتفريطهم، فما كان سلفهم على هذا الحال أبدًا من الانشغال بالدنيا، والغفلة عن الآخرة، وعدم الاستعداد للقاء الله تعالى، وفيما هم فيه من طول الأمل والبعد عن الربّ -سبحانه وتعالى- وفيما هم فيه من عدم الاستقامة على أمر الله تعالى، وثبات السير بالأقدام والقلوب إلى الله تعالى، إنَّما هم ساعةً متعبدين، وساعةً مقصرين مفرطين، وساعةً في الذكر، وساعةً في الغفلة وهكذا لم يثبتوا على السير إلى الله، ولم يستقيموا في طريقه -سبحانه وتعالى- ولم يستعدوا له، وغفلوا عن يوم رحيلهم إليه، وملاقتهم له، ووقوفهم بين يديه.

 

    ومع ذلك ما تزال رحمة الله تعالى تحفهم، وما زال في أيام البركة وأيام البر أيامٌ يمكن أن يستدركوا فيها، أن يقوموها كلها، وأن يصوموها كلها، وأن يُعمروها كلها بالذكر كما ذُكر في التسبيح والتهليل والتحميد، وكذلك ليكبروه فيها، وأن يستبدلوا الغفلة بالذكر، وأن يستبدلوا البعد بالقرب، وأن يستبدلوا ما هم فيه بالطاعة والمحبة لله تعالى، ذلك كله ينتظره الرب -سبحانه وتعالى- من عباده المؤمنين المتقين حتى تتنزل عليهم رحمته ويرتفع عنهم البلاء، وأن تحيط بهم من عفوه ومغفرته والعتق من النار.

   

 ---- يوم  عرفة -----

 

لذلك شرع لهم -سبحانه وتعالى- يوم عرفات ليكون خاتمة تلك الأيام حتى يصبحوا مُعَيدين، عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: « يكفر السنة الماضية والباقية (5)»، ويوم عرفة أفضلُ أيام الدنيا إن قلنا ذلك على رأي كثير من أهل العلم أفضل أيام الدنيا، يباهي الربّ -سبحانه وتعالى- أهل الموقف كما ذكرنا وهو لغيرهم يعني: من لم يحضر الموقف، من لم يحضر عرفات وهو يوم تكفير الذنوب والسيئات، وهو يوم عظيم يوم إكمال الدين، يعني: اليوم الذي قال فيه المولى لعباده المؤمنين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3]، فشرع لهم -سبحانه وتعالى- في هذا اليوم من الأعمال ما يستكملون به بقية أعمالهم وينتظرون به رحمة الله تعالى وغفرانه، وعفوه وأن يُعتقوا من النار.

 

     ----- صيام عرفة -----   

 لذلك شُرِعَ لهم في ذلك اليوم العظيم يوم عرفات؛ أوَّلَ ما شرع أن يصوموا ذلك اليوم، وهذه المسألة المهمة أنَّك تأتي عرفات ولم تستعد في الأيام الأولى له، لم تستعد في أيام البر، لم تستعد للعتق من النار والمغفرة، يعني: في العشر الأواخر حاولت أن تعتكف وأن تتحرى ليلة القدر، وأن تنتظر يوم الجائزة.

    أمَّا في عرفات جاءت الأيام وأنت في الغفلة، وأنت في البعد، وأنت تقول غدًا يصوم، بعد غدٍ يصوم، يصوم أو لا يصوم، لم يصم النبي صلى الله عليه وسلم وصام النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا الكلام الذي لا يقدم  ولا يؤخر، النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» انتهت المشكلة، كل عملٍ صالح فيها أحبُّ إلى الله، والصيام لا شك عملٌ صالح.

   فلماذا التأخر فيها؟! .............  ولماذا الغفلة فيها؟! ............ ولماذا تقدم فيها أعمال الدنيا وشهوات النفس وملذاتها؟! ............  ولماذا تقدم فيها الأنس بالخلق على الأنس بالله تعالى؟!  لا تُفرِّغ لك فيها وقتك وجهدك وعقلك، وذهنك وبدنك وتقبل فيها على الله تشتكي أحوالك السيئة له -سبحانه وتعالى- وترفع فيها شكواك إليه -سبحانه وتعالى- وتتضرع إليه وتتذلل له -جلّ وعلا- أن يرفع عنك ما أنت فيه؛ عنك وعن إخوانك وعن المسلمين  في مشارق الأرض ومغاربها.

     أن تدعوه -سبحانه وتعالى- أن يغفر لك، ولا تمر هذه الأيام إلا وقد أعتقك من النار، وألا تمر هذه الأيام وقد حيا قلبك بذكره ومحبته، والإقبال عليه، وأن تكون هذه الأيام صفحة جديدة لك مع الله تعالى تملؤها بعد ذلك بالعمل الصالح، تبدأها بالتوبة إلى الله تعالى من كل الذنوب والمعاصي فيما بينك وبين الله، وكذلك بالخروج من المظالم بينك وبين الناس، حينئذ تبدأ صفحةً جديدة بيضاء مع الله تعالى مِلؤها بعد ذلك الصيام والقيام والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل، مِلْؤها الدعاء والتضرع والإقبال، ملؤها الاستعداد للقاء الله تعالى.

     تصير حينئذ شخصًا جديدًا مع الله تعالى، تصير امرءًا جديدًا مؤمنًا تقيًا مع الله -جلَّ وعلا- ما الذي يمنعك من ذلك أيها المسكين؟ انظر إليك ترى أسباب النجاة، وأسباب المغفرة، وأسباب العتق من النار واضحةً أمامك وإذا بك تؤخر وتسوِّفُ غدًا، وبعد غدٍ، وعندي أشغال، وعندي أعمال، ولا استطيع الأجازة، وعندي كذا وكذا، كأنَّك إذا ذهبت إلى الله تبارك وتعالى فإنَّ الله لن يكفيك هذه الأمور؟!  سيكفيكها الله تبارك وتعالى، إذا أتيت إليه أتى إليك، إذا قمت إليه كما يقول في الحديث القدسي «عبدي قم إلي أمش إليك» فإذا ما سعيت إليه هرول إليك -سبحانه وتعالى- ينتظر عباده أن يَفِيْئوا إليه، وأن يرجعوا إليه -سبحانه وتعالى- ينتظرهم -جلَّ وعلا- ويفتح لهم الأبواب التي يدخلون منها عليه -سبحانه وتعالى.

 

    تُرى ما الذي يوازي المغفرة، ويوازي العتق من النار في هذه الأيام؟  فإنك  إذا ما بذلت دنياك من أوَّلِهَا إلى آخرها ثم حصلت المغفرة كأنَّك لم تبذل شيئًا,  فكل شيء في جوار المغفرة هينٌ، يستهان به قليل لا يوازي المغفرة والعتق، فإذا ما قمت ليلك ونهارك أجمع هذه الأيام كلها من أوَّلِهَا إلى آخرها -تسعة أيام أو تسعة ليالي- كل ذلك لا يوازي أن يغفر لك، فإذا ما أقبلت بهمك، وقلبك صادقًا مخلصًا مع الله تعالى، حزينًا على ما فات، لو أنَّك تحاول أن تستدرك ما قد مضى من عمرك  بإقبالٍ على الله تعالى ومحبة يوشك أن يراك المولى سبحانه وتعالى على ذلك الحال فيقيل عسراتك، ويغفر ذنوبك وسيئاتك، ويأخذ بيدك إليه -سبحانه وتعالى- ويخصُّكَ بمزيد الرحمة، وبمزيد المغفرة منه جلَّ وعلا، أمَّا أن يراك غير مقبلٍ عليه تأخذ الأمر بغير جِدْ وبتكاسلٍ وتقدم أمور الدنيا، وأمور راحتك ونفسك على أمر الله تعالى ومحبته وطاعته، لا يُقدمك على أحد , بل  يؤخرك كما أخّرت نفسك,  فإنَّ مقامك عند الله كمقام الله عندك، منزلك عند الله تعالى كمنزلة الله عندك في قلبك وعملك أيها المسكين، وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

فانظر إلى هذا المعنى وحاول أنْ تستغل عرفات في تحقيق هذه المغفرة، فإذا ما أخذ المرء بأسباب المغفرة في عرفات فإنَّ الله تعالى يوشك أن يغفر له، فيصبح المرء وقد حُقَّ له أن يُسَّر، وأن يُعَيد، وأن يفرح بفرح الله تعالى به، وأن يسَّر بإقبال الله عليه، وأن تطيب نفسه بمغفرة الله له، وأوَّلُ ما يفعله المرء -كما أشرنا- في ذلك اليوم إنما هو الصيام.

 

     ----- حفظ الجوارح في يوم عرفة ------

 

     والأمر الثاني: أن يوم عرفات يومٌ من حفظ فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له، فكان مما ينبغي أن يتحرز فيه المرء، وأن يحفظ فيه نفسه في عرفات أن يحفظ لسانه وسمعه وبصره، فإذا ما حفظ ذلك غفر له ما تقدم من ذنبه والسنة الآتية كذلك.

 

----- تحقيق التوحيد والإخلاص في يوم عرفة ------  

والأمر الثالث: المهم في ذلك اليوم وهو تحقيق التوحيد والإخلاص لله تعالى، لذلك كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عرفات كما قال: « أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

 

    أفضل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: (لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وليس معنى ذلك أن يتلفظ بها فقط، وإنما أن يحقق بها توحيد الله تعالى، والإخلاص له -سبحانه وتعالى- وأن تكون -يعني هذه الأذكار من أذكار النبي صلى الله عليه وسلم سببًا لعتقه من النار، فهو في هذا اليوم يفعل كل ذلك ليتحقق بالعفو والمغفرة والعتق من النار، كما هو حال أهل عرفات عندما يفيضون مغفورًا لهم، يعتقهم الله تبارك وتعالى جميعًا من النار.

 

    فإنَّ:  (( مَن قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" في يومٍ مائة مرة كانت كعتق عشر

رقاب))، ((ومن قالها عشر مرات كانت كعتق أربعةٍ من ولد إسماعيل))  يعني: من نفساء العتقاء، من الأرِقَاء النفساء، لذلك كان هذا الأمر الأول.

   

 الأمر الثاني: أن يستشعر توحيد الله والإخلاص له، يعني: أن يحاول أن يخرج من قلبه الرياء، والسُمْعةَ وأن يخرج من قلبه العمل لغير الله تعالى، والقول لغير الله تعالى، والسكون لغير الله تعالى، والتعلق بغير الله تعالى، والخوف من غير الله تعالى، والرجاء في غير الله تعالى،

 

 وإنَّما يكون خوفه، وخشيته وإنابته، وتعلقه وتوكله، ويقينه ومحبته كل ذلك لربه سبحانه وتعالى,

 

 لا يرجوا إلا إياه .....  ولا يدعوا إلا هو .....   ولا يستعين إلا به .....  ولا يتوكل إلا عليه .....  ولا يثق إلا فيه .....  ولا يخاف إلا منه .....  فيُخْلِصَ قلبه لله تعالى حينئذ حتى يكون ذلك سبب عتقه من النار في ذلك اليوم.

 

     فإذا ما بدأ ذلك مع الإخلاص لله تعالى، وإظهار التوحيد للربِّ -جلّ وعلا- فإنَّه يكون سبب عتقه كذلك من النار.

 

    ---- عتق رقبة لله تعالى , أو ما يقاربها من الأجر -----

   ومما يحافظ المرء عليه، وكان ذلك في الأزمان  السالفة؛ أنَّه في يوم عرفات كانوا كُلُّ أحدٍ يحاول أن يعتق رقبةٍ لله تعالى فإنَّه: ما من أحدٍ يعتق رقبةً لله إلا أعتق الله تعالى بكل عضوٍ منها عُضوًا منه من النار.

 

   لذلك كان يقف حكيم بن حزام في عرفات وقد أشعر مئة بدنه، ومئة عبد يعتقهم لله تعالى! فلم يُرى أكثر من هذا اليوم كما رَوَّوْا بُكاءًا وعويلًًا ودعاءًا إلى الله تعالى، يبتهلون إليه أنَّ عبدك قد أعتق رقابهم، قد أعتق عبيده وقد قدم قرابينه لله تعالى يريد أن يعتقه، فأعتقنا من النار، يدعون ربهم أنْ يعتقهم عندما يروا عبدًا من عباده يعتق رقابهم وكذلك يذبح هذه الهدايا لله تعالى، وتلك القرابين للربِّ جلَّ وعلا.

  

وإذا لم يكن ذلك موجودًا اليوم فإنَّ من الصحابة من استعمل غير ذلك فكان عامر بن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهم أجمعين- كان يشتري نفسه من الله تبارك وتعالى، اشترى نفسه من الله ست مرات في كل مرة يتصدق بقيمة دِيتِه كأنه قتل نفسه، فيتصدق بدِيَتِها كاملةً، عشرة آلف دينار، أو ثنتي عشر ألف درهم كما هي قيمة الدِيَة التي يدفعها المرء، كان يشتري نفسه من الله تعالى.

 

    وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه:  كان يسبح في اليوم ثنتي عشر ألف تسبيحة يود بها أن يعتق الله تعالى رقبته من النار , كأنها توازي قيمة الدية؛ قيمة ثنتي عشر ألف درهم، وهذا في مقدور المؤمنين اليوم إذن أنْ يحاولوا أنْ يعتقوا رقابهم من النار أن يتصدقوا لله تعالى بما يكون دِيَتهم، وإن لم يجدوا شيئًا يتصدق به أن يسبحوا له، وأن يَحْمَدوا له، وأن يُكبروا له، ما يكون سببًا في تحصيل هذا الثواب الذي يعتقون به أنفسهم من النار، فإذا ما أكثروا من ذلك في يوم عرفات من توحيدهم للربّ، وحفظهم لجوارحهم، وصيامهم، وكذلك أن يحاولوا في فِكَكِ رقابهم من النار، وأن يدعوا الله تعالى بذلك، علاوةً على التهليل والتكبير، علاوةً على ما ينبغي للحاج وغير الحاج في عرفات من كثرة التضرع، والبكاء، والدعاء إلى الله تعالى أن يغفر الذنوب والمعاصي، وأن يحط السيئات والجنايات عن المؤمنين وأن يغفر لهم، وأن يزيد في تضرعهم، وبكائهم عل الله تعالى أن يطلع على أهل الموقف فيغفر لهم وعلى غيرهم فيعتقهم كذلك من النار.

    لَمَّا رأى الفضيلُ في عرفات بكاء الناس وتضرعهم في ذلك اليوم لله تعالى - وكانوا على ما كانوا فيه من العبادة والإقبال على الله تعالى - قال: تُرى لو ذهب هؤلاء كلهم إلى غني من الأغنياء يطلبون منه دانقًا واحدًا - يعني: سدس درهم-  أكان يمنعهم؟ قالوا: لا؛ قال: ( والله للمغفرةُ من الله تعالى أهون عليه -سبحانه وتعالى- من دانقِ هذا)) ، يعني: المغفرةُ أقرب إليهم من الله تعالى، وأخف على الله تعالى من صاحب هذا الدانق من صاحب سدس الدرهم ذلك عند الله تعالى.

   

  فكأنَّه يحيط به الرجاء في الله تعالى أن يغفر له مع طول التضرع، والبكاء، والدعاء وكثرة ذلك بعد أن يختم يومه -كما أشرنا- أو أن يفتتح يومه بالتوبة الصادقة النصوح بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الخلق، ويجتنب حينئذ في ذلك اليوم الإصرار على المعاصي والسيئات، ويجتنب الكِبْرَ والإختيال الذي يمنع المغفرة من الله تعالى، يجتنب ذلك أن يَحُلَّ عقد الإصرار في قلبه، وعقد السيئات والذنوب التي هو فيها,  لعَلَّ الله -سبحانه وتعالى- إذا رأه قد أقبل عليه، وترك ما يغضبه ويسخطه أن يصبح مغفورًا له فيُعَيد مع المؤمنين، وأن يتوب الله عليهم، وأن ينزل عليهم رحماته -سبحانه وتعالى- وأن يرفع عنهم البلاء.

    فليَكُنْ المؤمنون المتقون في المقدمة، لرفع ذلك عن أنفسهم وعن غيرهم، وأن يحاولوا في أخذ أسباب ذلك حتى يبدؤا هذه الصفحة البيضاء مع الله تعالى، فإنَّ الله تعالى قد استنفذ معهم هذه الأيام كل الأعذار التي يرتكبون أو يرتكنون إليها، لم يبقى لم عذر في أن يغفر لهم.

 


 

(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (1867)، وأبي داود (2082)،.وأخرجه الترمذي (688)، وابن ماجه (1717).

(2) تقدم تخريجه.

(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر(13693)، عُقِرَ جواده : جُرِحَ فرسه وضُرِبَتْ قوائمه بالسيف أو قُتِل.

(4) . رواه أحمد في مسنده(7273) من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم في صحيحه (118) والترمذي في سننه(1582).

(5) أخرجه مسلم (1162)  من حديث أبي قتادة.

 

  

انتهى النقل

________________________________________________________

روابط ذات صلة :

مجموعة مقالات: أَجْمَلُ النَّسِمَاتِ من مقالات الأَشْهُرِ المَعْلُومَاتِ  

ملف "أحوال أهل الإيمان في الأشهر المعلومات"

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام : هذه المقالات  استخرجها محررو الموقع  -بحسب ما أدى إليه فهمهم واجتهادهم  - من  تفريغ لخطب صوتية ألقاها فضيلة الشيخ في سنة 1423هـ - 2002م , وقد تم التصرف فيها كثيرا لتبسيطها وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر الذي تحتويه  تلك الخطب, لذا فإن أي خطأ يتحمله المحررون وحدهم ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به , ولا تنس أخي الكريم أن  أصل المقالة  تفريغ لخطب صوتية  ,  لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليها , والله الموفق

 

 

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله