فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله
موقع غير رسمي يحتوي على المحاضرات الصوتية و كتب لفضيلة الشيخ

فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله / ركن المقالات  / أجمل النسمات من مقالات الأشهر المعلومات/ علامات السائرين في طريق الله تعالى بعد الخروج من رمضان

 

 

تنبيه (

 

علامات السائرين في طريق الله تعالى بعد الخروج من رمضان

مقدمة
أولًا: محبة الله تعالى
ثانيًا: ذكر الله تعالى
ثالثًا: المواظبة على قيام الليل
رابعًا: المسارعة إلى الخيرات
خامسًا: الانشغال بأمر الدين والدعوة
سادسًا: الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة
الحاشية (الهوامش )

مقدمة
قبل رمضان وقفنا عند مفترق الطرق، فإما أن يسير أهل الإيمان في طريق المجاهدة الموصل إلى المغفرة وإلى محبة الله تعالى، وإما أن يكون مصيرهم الاستبدال فيأتي الله تعالى بغيرهم أكثر محبة له وطاعة له وبذلا له جل وعلا.
وأشرنا إلى أن الله تعالى قد فتح رمضان لتحقيق المغفرة، ولتحقيق أسباب العتق من النار؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «رَغِمَ أنف امرئٍ أتى عليه رمضان فلم يغفر له، خاب وخسر من أتى عليه رمضان فلم يغفر له، أبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين، أدخله النار، قل : آمين، قلت : آمين» 1 لئلا يكون للناس على الله تعالى حجة بعد ذلك، فإذا ما أهملوا هذه الفرصة وتركوها ولم يتحققوا بأسبابها، ولم يأخذوا في أهبتها، فليس لهم عذر عند الله تعالى.
والسؤال الآن :
تراهم قد خرجوا مغفورًا لهم؟
تراهم قد خرجوا عتقاء من النار؟
تراهم قد أخذوا الأمر بجد واجتهاد وعلموا أنهم موقوفون ومسئولون أمام الله تعالى عن ذلك؟
تراهم قد خرجوا من رمضان وقد ظهرت عليهم آثار الرحمة، وآثار المغفرة، وآثار العتق من النار؟

أم أنهم قالوا : لم يحدث ذلك، وإن شاء الله في رمضان القادم سنبدأ من أوله، وسنحاول، وسنجاهد وسنواصل، وسنفعل وسنفعل؟
تراهم قد أخذوا هذه الفرصة من الله تعالى بالفرحة والإقبال والجد والعزم وبذلوا فيها وقتهم وجهدهم ومالهم وصحتهم وفراغهم ليحققوا أسباب المغفرة، فإنهم لو بذلوا الدنيا وما فيها وجهدهم ومالهم ووقتهم وعمرهم ليحصلوا المغفرة كان ذلك قليلاً؛ تراهم قد حصلوا ذلك؟
تراهم قد خرجوا فظهرت عليهم آثار المغفرة، وآثار العتق من النار، وآثار التوبة، وصاروا خلقًا جديدًا أحب إلى الله، وأقرب إليه، وأسرع إلى مرضاته، قد علاهم الخشوع والخضوع والإقبال على الحق، والاستعداد للقاء الله جل وعلا؟ هذا هو مفترق الطرق ...
ومحل السؤال اليوم .. هل سرنا في هذا الطريق الذي حدده الله تعالى وأمر به، أو أن هذه الطرق قد تشتت بنا، ورجع من رجع، وتكاسل من تكاسل، وسوَّف من سوَّف، ثم انتظر أن يأتي رمضان الجديد؟
هذا هو السؤال الذي ينبغي أن يسأله المرء نفسه، فيعلم أنه إما قد سار في الطريق الذي وقفنا فيه، أم أنه قد تراجع عنه ؛ لأنه ليس هناك أحد يقف في طريق الله تعالى؛ إما أن يتقدم إلى الله، وإما أن يتأخر؛ إما سائرون إليه مسارعون له متنافسون في الوصول إلى مرضاته، أو أنهم مقبلون على الدنيا آخذون بأسبابها راكنون إلى الشهوات والملذات، منشغلون بالولد والمال وتحصيل الفاني الزائل الذي سرعان ما يموتون وينتقلون عنه لو كان ذلك كما ندعي ونزعم فلابد أن نقول: إن الطريق الذي قد اخترناه له علامات ينبغي أن يراها المرء فى نفسه؛ هل سار في طريق الله تعالى، وسلك سبيله، وظهرت عليه آثاره، أو أنه لم يبدأ في هذا الطريق بعد، وينتظر هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم : «رغم أنفه، أبعده الله، أدخله الله النار قل : آمين، قلت : آمين» 2
ويسأل السائل ما هي علامات هذا الطريق الذي تدعي؟ وهذا الطريق أوله هذه العلامات التي ظهرت في رمضان من معاني العبادة والهمة والمجاهدة وما ينبغى أن يكون بينه وبين الله تعالى، وبينه وبين أهله، وبينه وبين أمته، وبينه وبين الناس، تحمل بذلك كله وسار به وأخذ مسئوليته منه بحيث إنه لو قيل له : أنت اليوم منقول إلى الله تعالى ومرتحل إليه لم يكن عنده ما يستطيع أن يزيد عليه ...لم يكن عنده بذل جديد ...
...لم يكن عنده وقت جديد ...لم يكن عنده مال جديد ....لم يكن عنده جهد جديد يقدمه؛ فقد بذل جهده ووسعه ليحقق أسباب نجاته، كما بذل جهده ووسعه ليحقق أسباب الدنيا والسير فيها والمشقة لها والتعب في تحصيلها، ثم يموت وينتقل عنها!

أعلى الصفحة

أولًا: محبة الله تعالى


أول علامات هذا الطريق ...محبة الله تعالى، فمن خرج مغفورًا له فقد خرج محبًّا لربه، مقبلاً عليه، متعلقًا به، متوكلاً عليه، واثقًا فيما عنده، قد امتلأ قلبه من محبته ومن نوره ومن ذكره، ومن الطمأنينة له، ومن الأنس به، والشوق إلى لقائه والاستعداد لهذا القاء مع المسارعة إلى طاعته وبذل المال والنفس والجهد لتحقيق رضى الله تعالى


هل قدمت ذلك على الولد وعلى الزوجة وعلى الابن وعلى الأب وعلى المساكن وعلى الدنيا التي قال سبحانه وتعالى فيها: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)} آل عمران (14-15) هؤلاء للذين خرجوا من الصيام تقاة لله تعالى لهم: { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)} آل عمران (15)
أم أنك ما زلت تقدم نفسك وولدك ومالك وثروتك وراحتك ونومك وصحتك وعيالك وزوجتك على الله تعالى؟! { قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} (التوبة 24)

 

فهذا هو المعنى الأول: هل خرج به المرء أم لم يخرج؟ وهذا هو الحال الذي ينبغي أن يظهر على المؤمنين الذين سلكوا هذا الطريق، وقد فتح الله تعالى لهم هذه الرمضانات كلها يمتحنهم فيها، ويبلوهم بها سبحانه وتعالى، ليتميز المحبون له من أولئك الدخلاء على محبته من أولئك المقصرين المفرطين فى محبته تعالى، ليتميز الطائعون من المفرطين المتكاسلين ليتميز المقبلون من المدبرين الناكصين وهذه هي بداية الطريق الذي وقفنا في مفترقه إلى الله تعالى فهل ساروا إليه أم نكصوا عنه وتقهقروا فيه ورجعوا إلى الدنيا متكالبين عليها غافلين بها عن الآخرة زاهدين بها في لقاء الله تعالى؟

أعلى الصفحة

 

ثانيًا: ذكر الله تعالى


وكان الأمر الثاني الذي يتميز به أولئك السائرون إلى الله تعالى هو ذكر الله تعالى، قال تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (البقرة: 152)
تراه قد غلب عليه الذكر كما قال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } (الأحزاب 41)، فكان الذكر الكثير هو الغالب على حاله؟
أم أن اللهو والغفلة والكلام الفارغ هو الذي قد زين طريقه ومعاملته وسيره ونومه وحركته وسكونه، لذلك قال تعالى: «أنا جليس من ذكرني» 3
فهلا استأنس بهذا الجليس؟
هل استأنس بربه ومحبوبه؟
أم أن أنسه كان بالناس واختلاطه بهم وإقباله عليهم وأنسه بكلامهم، واستئناسه ووحشته من ربه والحجاب بينه وبين الله تعالى؟
هل غلب على حال السالكين إلى الله تعالى أن يكون ربه جليسه وحاضره ومحدثه، يناجيه ويبثه شجونه ودعواه، ويدعوه ويتملقه، ويرفع إليه ويتضرع إليه؟ هل نظروا إلى هذا الحال فبين لهم مقامهم وسيرهم إلى الله تعالى؟
ثم بين لهم أعلى الذكر وأفضله وهو قراءة القرآن الكريم؛ تراهم قد أقبلوا على هذا الكلام كما ذكرهم المولى سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ(29)} (فاطر 29) وكما قال تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)} (الأنفال 2) هل ظهر عليهم ذلك؟


هل ظهرت عليهم بركته ورحمته ونوره وهداه وشفاؤه { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} (فصلت 44) فكان دواؤهم الذي يأخذهم إلى الله تعالى، ويطهر ظاهرهم وباطنهم، ويطهر قلوبهم وأبدانهم وألسنتهم وجوارحهم في سيرهم إلى الله تعالى، كان ذلك الكتاب على هذا المعنى كما قال تعالى: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر 23) {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً(82)} (الإسراء 82) ويبكون عند تلاوته وسماع آياته {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)} (مريم 58
تراك قد أقبلت على هذا القرآن وأدمنت تلاوته وتدبرت معانيه، وصرت ملتزمًا بأوامره ونواهيه، تأخذ منه ما يكون سببًا لنجاتك عند الله تعالى، وصلاح قلبك وصلاح بدنك وسيرك إلى الله تعالى، أم ما يزال الحجاب بينك وبينه والبعد والتقصير هو السائد عليك الملازم لك؟
هل تحقق هذا المعنى في سير السائرين إلى الله أم أنهم ما زال بينهم وبين كلام الله تعالى هجراً {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)} (الفرقان 30)

أعلى الصفحة

 

ثالثًا: المواظبة على قيام الليل


وكذلك من العلامات التى تبين حال محبي ربهم المقبلين عليه الذين قد سلكوا الطريق إليه، ويوشكوا أن يصلوا إلى محبوبهم تبارك وتعالى، ولم يكن حالهم حال الادعاء والتقصير، علامة قيام الليل:


فقد كان في رمضان يقوم في الليل لله تعالى فإذا هو بعد رمضان تظهر عليه آثار ذلك القيام َ{تَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16)} (السجدة 16) ، {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ{113} (آل عمران 113) ظهر عليهم ذلك في وقوفهم لله تعالى وفي مناجاتهم له، وفي التلذذ بهذه المناجاة، فإن مناجاة الله تعالى ليست من الدنيا بل هي من الجنة اصطفى لها ناس أوصلهم إليها !


لذلك يقول جل وعلا: كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} (الذاريات 17-18) هل وصلوا إلى هذا الحال الذي هو بداية الطريق إلى الله تعالى، أم أن الغالب عليهم النوم والكسل وراحة الجسد الفاني الذي إن هم أتعبوه في الدنيا وجدوا راحتهم في الآخرة وإن أراحوه في الدنيا تعب يوم يقوم الناس لرب العالمين

أعلى الصفحة

رابعًا: المسارعة إلى الخيرات


ثم ذكرهم سبحانه وتعالى أن يكونوا في بقية العبادة على حال المسارعة فقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ90} (الأنبياء 90 )فهلا كان ذلك منك؟
! لما نزل قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } (آل عمران 133) علم المؤمنون المتقون أنهم هم المقصودون بهذه الآيات، وأنهم هم المطالبون بالمسارعة، فسارعوا فيها، وتنافسوا بينهم أن يصل كل منهم الأول إلى الله تعالى ؛ فلم يبق لهم جهد ولا مال ولا وقت إلا بذلوه لله تعالى ونحن نزهد في طاعة الله تعالى لنوفر الجهد والمال والوقت للزائل للشهوات، للبعد، للغفلة، للفرص الكاذبة، إلى غير ذلك من الأحوال الفاسدة التي تعلو هيئة المؤمنين وقلوبهم هذه الأيام.

 
هلا سارعوا وعلموا أن هذه المسارعة لابد أن يقوموا بها، لأن أيام الدنيا معدودة، وابن آدم عدة أيام، إذا مضى يوم مضى بعضه حتى ينتهي إلى الله تعالى؟
وقد وعظهم الله سبحانه وتعالى بأن ليس لهم وقت في الدنيا ، وهو قوله الذي نذكره كثيرا : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ18} ( الْحَشْرِ 18 : 19)
والمعنى في قوله {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ( الْحَشْرِ : 18 ) هو أن أقرب الأيام أن يكون المرء عند الله هو الغد، ولو كان هناك يوم يمكن أن يكون المرء فيه عند الله قبل الغد لذكره الله تعالى، فكل نفس مطلوب منها أن تنظر فيما تلاقي به الله تعالى، هل يبيض وجهها أو يسوده؟

 من الذي نظر في أعماله وصحيفته فختمها بخاتمة تكون سبب أن يبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؟
. فعندما يقول : {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ( الْحَشْرِ : 18 ) تكون كل نفس مطالبة بذلك ولكن الله تعالى نعى على المؤمنين لأنهم لن يقوموا بذلك وسيقصرون فيه فقال : (نفس) يعنى حتى نفس واحدة تقوم من هذه النفوس التي تدعي المحبة والطاعة، والإقبال والتوحيد أن تقوم نفس واحدة لله تعالى لتنظر ما قدمت لغد، وذلك حتى يحضهم على أن يقوموا لله وأن تكون كل نفس منهم هي النفس التي تقوم لله تعالى
.هلا قامت كل نفس إذن لله تعالى ونظرت فيما قدمت، فختمت يومها بالعمل الصالح وحاسبت نفسها على ما قدمت وأخرت، حتى إذا لاقت الله تعالى لاقته وليس عليها شيء، فلاقت ربها سبحانه وتعالى مسرورة به وهو راض عنها سبحانه وتعالى
هلا أسرع في الإنفاق له، هلا أسرع في بذل وقته، هلا قام بما ينبغي أن يكون عليه من طلب العلم النافع والعمل الصالح والسير إلى الله تعالى، هل قدمت هذه النفس كما ذكرنا ما يكون سبب صلاحها عند الله تعالى؟

أعلى الصفحة

 

خامسًا: الانشغال بأمر الدين والدعوة


والسؤال هنا ماذا قدم هؤلاء المتقون لأمتهم التي وصلت إلى الحضيض؟ لمن تركوا الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، لمن تركوا التوسل إلى الله واللجوء إليه بالعمل الصالح ليرفع البلاء عن هذه الأمة ويدفع عنها ما نزل بها من الفقر وما ألم بها من المصائب التي هم السبب فيها {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} (الشورى 30) ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة، ماذا قدم هؤلاء فى الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وهل قدموا لله تعالى كلمة يرجون ثوابها عند ربهم، يرفعون بها البلاء عن أقوامهم؟
ماذا قدم هؤلاء؟؟؟
لمن تركوا بيوت الله تعالى في صلواتهم وعباداتهم وذكرهم وعلمهم؟؟؟


والمعنى التالي هو الحال الذي يكون عليه فيما بينه وبين أهله وولده، فيحملهم على الدين ويعلمهم طريق الله تعالى ويأخذهم من مفترق الطرق إلى طريق الله تعالى الذي يسير فيه، وكذلك أن يظهر بره لوالديه وإحسانه إليهما، إلى غير ذلك مما ذكر الله تعالى.
وينتقل بعد ذلك إلى ما يكون بينه وبين المؤمنين من سلامة القلب لهم والتكافل بينهم والتعاون بينه وبين إخوانه كما قال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة 2)، «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » 4 ،

ليس بينه وبينهم بغضاء ولا شقاق ولا تدابر ولا تقاطع ولا حقد ولا غل ولا محبة نفس وإيثار الدنيا والأثرة عليهم بل بينه وبينهم الكرم والجود والإحسان والعمل الصالح ثم دعوتهم إلى الله تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل 125) بالأمر بالمعروف بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق واللين..
ترى هذه الآثار قد ظهرت في طريق المتعبدين واتضحت عليهم وبانت أنوارها عليهم في حركاتهم وسكناتهم وكلامهم وظاهرهم وباطنهم وعبادتهم وقربهم وذكرهم وقرآنهم ومساجدهم ومعاملاتهم وإحساناتهم؟! وكذلك فيما بينهم من ترك المظالم والتناسي لما بينهم من المآسي والمصائب، وتجاوز كل عن أخيه يريد بذلك أن يتجاوز الله تعالى عنه، وتسامح كلٌ في حقه يريد أن يسامحه الله تعالى، فصاروا بذلك خلقا جديدا يستحق رحمة الله ومغفرته، ويستأهل أن ينزل عليهم سبحانه وتعالى بركته ويرفع عنهم بلاءه؟

أعلى الصفحة

 

سادسًا: الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة


 فهذه النفس التي سلكت طريق الله تعالى من بين هذه الطرق المفترقة التي ذكرنا، هي التي استعدت للقاء الله تعالى، ولا تكون مستعدة للقاء الله تعالى إلا بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، والركون إلى دار الخلود، وترك الركون إلى دار الفناء، وأن يكون من أهل الآخرة فيسارع مستعدا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يكون من أهل الدنيا التي يتكلمون عليها ويتنافسون فيها ويعلون بها ويتعززون ويتكبرون بها
إن كان الله تبارك وتعالى تهمه هذه الدنيا لجعلها لهؤلاء الكفرة، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} (الزخرف 33-35) فيبين سبحانه أنه لولا أن يتبع الناس هؤلاء، لجعل لمن يكفر به، لبيوتهم من فضة وسلالمهم كذلك وسررهم من ذهب ولفعل لهم ما لا يحسبه المرء أو يتخيله، ولكنه قال: { وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (الزخرف35)، الآخرة عند ربك لمن سلكوا طريق التقوى الذي يوصلهم لرحمة الله، قال : {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } (الزخرف32)) أيها المسلمون خير من هذا الجمع الزائل الذي تسعى إليه، فتضيع به آخرتك، وتنسى به ربك وتفاجأ بملك الموت على رأسك يقول اخرجي أيتها النفس إلى الله تعالى حينئذ تقول : أخرني يومًا أتوب فيه إلى الله وأعمل صالحًا، أخرني ساعة، فيقال: لا يوم ولا ساعة فني
ت الأيام وفنيت الساعات، وحينئذ يقال له كما ذكر الله تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} (المنافقون 10-11).
فإذا لم تظهر هذه العلامات، فالسؤال ما هو السبب الذي جعل المؤمنين يقصرون ويفرطون ويخرجون من رمضان وهم لم يسيروا بعد في طريق الله؟
السبب في ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يوفوا بعهدهم مع الله تعالى في رمضان، وإذا قلنا لماذا لم لا يستطيعوا الوفاء، فإن السبب في ذلك ضعف الإيمان.
فلو استشعر أهل الإيمان موقفهم عند الموت لكان ذلك سببا لأن يسارعوا بالاستعداد للقائه سبحانه وتعالى وكذلك لو استشعروا موقفهم في الآخرة، وأنهم قد يكونوا في محل عقاب الله تعالى، وأنهم موقوفون ومسئولون لشاب شعرهم، كما قال تعالى في هذه الآيات: {فكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (17)} ( الْمُزَّمِّلِ : 17 ) فلو كان المؤمنون يستشعرون ذلك لكان حالهم على غير هذا الحال، ولكان لهم خوف وخشية تدفعهم إلى الله تعالى وإلى التوبة والعمل الصالح.
لو استشعر هؤلاء المتسارعون إلى الدنيا والمتنافسون فيها أن ربهم مطلع عليهم وناظر إليهم لكان لهم استحياء من الله تعالى، غير هذا الذي هم فيه، لو كان يقينهم به وتوكلهم عليه لكان حالهم على غير هذا الحال، ولكنهم يفعلون ما يفعلون غير مستحين من الله تعالى، غير مبالين بنظر الله إليهم، غير مبالين بمقت الله لهم، غير مبالين بأن الله تعالى لو اطلع عليهم على هذا الحال يمكن أن يعذبهم، وأن يخسف بهم، ومع ذلك لا يهمهم ولا يؤثر في قلوبهم، فهل هذا هو الإيمان؟!
لذلك المرء في حاجة إلى أن يجدد إيمانه مع الله تعالى، وأن يجدد هذا اليقين في الله تعالى والتوكل على الله تعالى وحسن الظن بالله جل وعلا، وأن يجدد إيمانه بالآخرة والموت ولقاء الله والصحف والصراط والحشر وهذه الكرب والمصائب التي لا يطيقها أحد، فلو أحس بشيء من ذلك لتغير حاله، وتبدل من الفرح بغير الله ومن اللعب ومن الكسل إلى الحزن والبكاء.

أعلى الصفحة

 


 (1) رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير (1990) وأبو يعلى في مسنده (5789) وصححه ابن حبان في صحيحه (410)

 

 (2)  سبق تخريجه

 

(3)  رواه الديلمي بلا سند عن عائشة مرفوعًا، وعند البيهقي في الشعب عن أُبَي بن كعب قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك‏؟‏ فقال له يا موسى أنا جليس من ذكرني، ونحوه عند أبي الشيخ في الثواب عن كعب والبيهقي أيضًا في موضع آخر أن أبا أسامة قال لمحمد بن النضر أما تستوحش من طول الجلوس في البيت‏؟‏ فقال ما لي أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني. وأخرجه أبو الشيخ عن محمد بن نضر الحارثي، أنه قال لأبي الأحوص أليس تروي أنه قال أنا جليس من ذكرني فما أرجو بمجالسة الناس‏؟‏ وعند البيهقي معناه في المرفوع عن أبي هريرة أنه قال سمعت أبا القاسم ? يقول: إن الله عز وجل قال أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه. ورواه الأوزاعي عن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا، والمرفوع أصح. ورواه الحاكم وصححه عن أنس بلفظ قال الله تعالى: عبدي أنا عند ظنك بي، وأنا معك إذا ذكرتني

 

 (4) رواه البخاري (6011) كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم (2586) كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم

 

[أعلى الصفحة [انقر على رقم الحاشية (الهامش) للعودة]

 

 

 

 

 

_________________________________________

روابط ذات صلة :

مجموعة مقالات: أَجْمَلُ النَّسِمَاتِ من مقالات الأَشْهُرِ المَعْلُومَاتِ  

 

ملف "أحوال أهل الإيمان في الأشهر المعلومات"

________________________________________________________________________________________________________________

تنبيه هام : هذه المقالات  استخرجها محررو الموقع  -بحسب ما أدى إليه فهمهم واجتهادهم  - من  كتاب ماذا بعد رمضان - الطبعة الثالثة , وقد تم التصرف فيها كثيرا لتبسيطها ولكي تتلاءم مع طبيعة مقالات الإنترنت وحتى يستفاد إخواننا من بعض الدرر التي يحتويها  ذلك الكتاب , لذا فإن أي خطأ يتحمله المحررون وحدهم ,  وفضيلة الشيخ عافاه الله تعالى  ليست له علاقة به , ولا تنس أخي الكريم أن  أصل الكتاب  تفريغ لخطب صوتية  ,  لذا فإن أسلوب الاستطراد غالب عليه , وأصل الكتاب منشور على الإنترنت  , فارجع إليه إن شئت للاستفادة,  والله الموفق.

 

الحقوق الفكرية: فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله